١٤ يناير ٢٠١٢

المقال الثاني من سباعية " أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

العبقرية الفكرية للأمكنة – إقليم البحيرة نموذجا :

" أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

الحلقة الثانية : عبق التاريخ في مدينة المسيري :

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في رحلته الفكرية : " ولدت في دمنهور، عاصمة البحيرة، وهي مدينة صغيرة في دلتا مصر تقع بالقرب من الإسكندرية . وحينما نشأت فيها طفلا، كانت تتميز ( من منظور رحلتي الفكرية ) بوجود عبق التاريخ فيها، برغم أنه لا توجد فيها آثار فرعونية أو قبطية أو إسلامية . وقد عرفت ممن هم أعلم منى بالآثار، أن هذه هي الحال دائما مع المدن الصغيرة التي تستمر فيها الحياة عبر العصور( على عكس المدن التي يتوقف فيها التاريخ وتدفنها الرمال ) . إبان نشأتنا في دمنهور كانوا يخبروننا أن اسمها هو( دم نهور ) لأن الدماء، كما قالوا لنا حينذاك، سالت فيها أنهارا في أثناء إحدى المعارك الحربية في الماضي . ثم عرفنا فيما بعد أن هذه التسمية فلكلورية، وأن دمنهور هي ( دمن حورس )، أي ( مدينة الإله حورس ) ". ثم يتابع قائلا : " عرفنا أن دمنهور من أقدم مدن العالم، وأنها كانت عاصمة الوجه البحري قبل توحيد القطرين ( يقال إنها هي ودمشق المدينتان الوحيدتان اللتان استمرت فيهما الحياة بدون انقطاع مع احتفاظهما باسميهما اللذين عرفا بهما في الماضي )"[1].

إن القول من قائل أيا من كان عن أي مدينة أيا ما كانت : أن بها عبق التاريخ؛ لا يضاهي بأي حال من الأحوال قول المسيري حين يقول ذلك، لأن التاريخ عند المسيري يعني الإنسان بإطلاقه، فكون الإنسان كائنا تاريخيا يعني أن الإنسان هو خالق الحضارة ومبدع لها [2]. وكذا يعني أن الإنسان في اللحظة الراهنة يوجد في نقطة يلتقي فيها الماضي والمستقبل ، وأن الإنسان كفرد ليس هو البداية والنهاية [3]؛ فالإنسان عنده الذي بدون تاريخ يعتبر شيء يبحث عن اللذة الآنية؛ فهو ليس له مرجعية وكذلك ليس له مستقبل ( أي يستهلك الأرض ولا يبقي شيئا للأجيال القادمة ) . لذا كان أول من انتقد فكرة " نهاية التاريخ " التي تنفي الماضي والمستقبل معا، وصك المصطلح قبل الفيلسوف المعاصر الشهير " فوكاياما " بخمسة عشر سنة كاملة؛ والذي اقترن المصطلح به، وهي الفكرة التي يؤمن بها الصهاينة وكذا الأمريكان، حيث أن تنكر الأمريكان للتاريخ منبعه أنهم حضارة استيطان، والاحتكام للتاريخ يعني الاعتراف بأصحاب الأرض الأصليين ( الهنود الحمر ) .

وهذا الكلام من المسيري عن التاريخ يتوافق مع رؤى كثير من الإسلاميين للتاريخ، فابن كثير مثلا يرى : أن التاريخ في الرؤية الإسلامية وحدة واحدة متماسكة، له بداية وله نهاية، ونحن في نقطة الوسط بينهما، وهذا ما يفسر تسميته لأهم كتبه عن التاريخ بالبداية والنهاية . فالمسيري حين يقول عن دمنهور أن بها عبق التاريخ يعني أن بها عبق الإنسان، وأنهم أصحاب الأرض، وهو ما يؤكد عليه حين يقول : أنه ليس بها آثار تذكر، أي أنها ليست مدينة متحفية؛ بل مدينة إنسانية – إن جاز التعبير- أي أن إقراره لدمنهور أن بها عبق التاريخ، وكذا إقراره بأن الحياة استمرت فيها منذ بدء الخليقة إلي الآن بدون انقطاع، وكذا إقراره بندرة الآثار فيها لهو اعتراف صريح صحيح بفضل هذه المدينة، وتميزها الحضاري؛ بل وريادتها في ذلك . وكون آثارها تمثلت في الإنسان الباقي عبر العصور بإنسانيته وخبراته؛ وليست كما مدينة الأقصر التي تمثلت آثارها في المباني والعمران وفني فيها الإنسان . ولإن كان بعض متخصصي علوم الحضارة [4] يفرقون بين شقي الحضارة ( المدنيةCivilization والثقافة Culture ) ويعتبرون أن ( المدنية Civilization) هي الجانب المادي في الحضارة، و( الثقافة Culture ) هي الجانب الإنساني في الحضارة؛ فإن دمنهور تمثلت الحضارة فيها في الثقافة، وهذا أمر جلي لكل ذي لب وكل صاحب عين ناقدة، مما يجعل سهم هذه البلدة يوضع على رأس قائمة الموارد البشرية في كنانة مصر المحروسة، فالطاقات البشرية أهم مصادر التنمية ولا ريب .

والحق التاريخي ينطق بصدق المسيري في نظرته لمدينة دمنهور . فهي من أقدم المدن الأولى للعالم، بل وعاصمة لأقدم تجمع حضاري في العالم أجمع، وكان هذا التجمع عبارة عن دولة تسمى مصر السفلي التي كانت قطرا مستقلا، ثم سميت فيما بعد بالوجه البحري بعد توحيد مينا للقطرين في أول عهد الأسرات . وكان هذا القطر يحكم بمجلس نيابي حكما شوريا – أو بالمنطق الحديث ديمقراطيا – حيث تعتبر عاصمة أول تجمع ديمقراطي في التاريخ الإنساني وهو الوجه البحري[5] ( أو مصر السفلى )، الذي كان في هذا الوقت أكثر مدنية وتطورا من الوجه القبلي ( أو مصر العليا ) آنذاك[6]. وتعتبر لوحة الملك نارمر( أو مينا ) بوجهيها - المسماة بصلاية نارمر – أحد الأدلة على ذلك، وكذا تعاليم الملك " خيتي "[7]، بل ورد في برديات قوائم مانيتون ما يدل على تقدم النظم السياسية، وحبكة أنظمة الحكم الإدارية في دمنهور قبل توحيد القطرين على يد " نارمر" [8]. وها هم علماء الحملة الفرنسية يقررون في كتاب " وصف مصر " أن سكان إقليم البحيرة القديم هم الذين أسسوا مدينة " أثينا " درة تاج الإمبراطورية الإغريقية تقليدا لمدينة " سايس " أو" صا الجحر " أحد أهم مدن إقليم البحيرة القديم "، والمرتبطة تاريخيا وجغرافيا بعاصمة مصر القديمة " نقراطيس " – كوم جعيف الحالية - بإيتاي البارود، وأن " سيكروبس " مؤسس أثينا من مواليد إقليم البحيرة [9] .

ومن المسلم به أن الباحثين الموضوعيين يقررون حقيقة موضوعية هامة وهي أن : الحضارة المصرية القديمة كانت مرحلة أولية لكل الحضارات اللاحقة لها . وها هو هنري توماس أحد المؤرخين الغربيين يعبر عن ذلك بقوله : " إنه على أرض مصر عاش الحكماء الأوائل العظام في التاريخ . ويمكن أن نعتبر هذا القطر معلم الإنسانية الأول "[10]. وكون الحضارة المصرية القديمة كانت مرحلة أولى لكل الحضارات بل أساسا لها؛ يدعو للبحث عن سر ذلك، وإن كان " جريمال " قد تحسس بعضا منه حيث يقول : " السر الأول من أسرار مصر هو استمراريتها "[11]. فالسر إذن في استمرارية مصر عبر العصور، شاهدة على كل تطور وتغيير . والكاتبين دوجلاس بريور و إيملي تيتر يشككان في صحة مقولة : " موت الحضارة المصرية القديمة بالكلية " لأنها من وجهة النظر العامة لا تتناسب مع حجم المظاهر العديدة للثقافة المصرية التي استمرت إلى يومنا هذا ، ويسمونه تحولا وليس موتا[12]. وتبعا لــ "جريمال " في مرجعية الاستمرارية عنده، و كذا إقرار " بريور" و" تيتر" له؛ فإن المدن المصرية التي استمرت الحياة فيها بدون انقطاع هي أكبر شاهد ثقافي على كل هذا، وهذا لم يتوفر سوى لإقليم البحيرة عامة ومدينة دمنهور خاصة ولم يتمتع أي إقليم من أقاليم مصر بهذه المزية بما في ذلك الإسكندرية نفسها - كما سيأتي بيانه - وبلد استمرت فيها الحياة بدون انقطاع؛ لهي بلد تتوفر فيها مؤهلات هذه المرجعية التي ذكرها " جريمال ".

وهذه فكرة لم ينتحلها المسيري لتمييز مدينته فما كان هذا دأبه ولا منهجه ولا قصده . خاصة وإن علماء التاريخ والحضارة، وكذا الآثار؛ يرصدون هذه السمة بمظاهرها وخصائصها في مصر كلها، وبالذات في المدن التي استمرت فيها الحياة بدون انقطاع فهذه المدن هي الصورة الفعلية لمصر الممتدة عبر العصور.

وليس أدل على ذلك ما ذكره علماء الحملة الفرنسية في كتابهم الميداني " وصف مصر" : من أن المؤرخ المقدوني " سترابون " – وهو الذي يعد أحد أهم المرجعيات التاريخية القديمة – حين قام بمسح ميداني للمدن القديمة خلال زيارته للمنطقة كان جل اهتمامه في تحديد المواقع الأصلية لأهم مدن العالم القديم ( دمنهور وبوتو ونقراطيس وسايس )، ولم يستطع تحديد المواقع على وجه الدقة، وأخطأ في تحديدها جميعا إلا مدينة دمنهور، وذلك لاستمرارها وعدم انقطاع الحياة فيها[13].

ولهذه الاستمرارية دلائل وبراهين؛ منها على سبيل المثال لا الحصر[14] : استمرار المسميات المصرية القديمة في أسماء مدن وقرى معاصرة كثيرة، مثل أسوان وجرجا وقوص وقفط والسنطة وسندهور ودمنهور وشبراخيت وصا الحجر، ويطلقون كلمة " شبرا " في المصرية القديمة على الأرض المرتفعة، وإقليم البحيرة به أكثر من مكان يحمل نفس الاسم . وكذا : احتفاظ المزارعين بأسماء مصرية قديمة لشهور الزراعة، مثل : شهر " توت " نسبة إلى المعبود الدمنهوري تحوتي رب القمر والحساب والحكمة، وشهر " هاتور " إلى المعبودة حاتحور، وشهر " بؤونة " و" طوبة " و" برمهات " و" أمشير " .. إلخ . وكذا : استمرار بعض أسماء العائلات الكبيرة والتي في اسمها دلالة لغوية مصرية قديمة، وبعضها لها جذور من إقليم البحيرة خاصة، ومنها : عائلة " الشناوي " نسبة للشونة التي تعنى بتخزين الغلال ومنها كلمة مشنة، وعائلة " الصاوي " نسبة لبدة " صا " أحد أهم مدن الإقليم القديمة . وكذا : استمرار بعض التعبيرات الدارجة الحديثة والأسماء والصفات والأفعال التي لها معنى أو دلالة في اللغة المصرية القديمة . مثل : قولة " إدي " بمعنى اعطي، ومثل قولة " مأأ " لإطالة النظر، و" تف " و" نف " و" كاكا "، و" كركر " بمعنى ضحك عاليا، و"عفأ " بمعني أمسك، و" بح " بمعنى انتهى، و" سك " بمعنى ضرب، و" طنش " بمعنى تجاهل، و" برطم " بمعنى لخبط، و" بربش " لتحريك الجفون، و" ست " بمعنى سيدة، و" ننة " بمعنى طفل صغير، و" كحكح " بمعنى عجوز، و" مدب " بمعنى كثير العثرات، و" شونة "، و" طمي "، و" بيبة " بمعنى برغوث، و" واوا " للألم، و" فول "، و" سومي " للخضار بدون اللحم، و" حلولي " لمداعبة الأطفال، و" امبو" في الحديث إلى الأطفال، و" بوري " للسمك، و" ننوسة " بمعنى جميلة، و" تاتا " للمشي، و" كخ " للقذارة، و" بس " و" طخ " للصوت المفاجئ المرتفع .. إلخ . وكذا : استمرار بعض الألعاب مثل : النحلة والباط والتحطيب وتريك تراك والسيجة، ومن هذه الألعاب ما ذكره المسيري في التأريخ للتراث الثقافي للإقليم في كتاب " رحلتي الفكرية ".

.. وبعد :

فكون دمنهور استمرت فيها الحياة بدون انقطاع، ولم تدفنها الرمال، يومئ بعبقرية هذا المكان – باستخدام تعبير جمال حمدان – لاستمرار الثقافة (Culture ) فيه المتمثلة في الإنسان . وهو الأمر الذي يحاول هذا البحث تلمسه، وإلقاء الضوء عليه؛ بغية الاستخدام الأمثل للموارد البشرية المتوفرة في هذا الإقليم بمواصفات ثقافية خاصة مغروسة فيهم ، وموروثة منذ القدم . ولسنا نزعم القداسة لمدينة دمنهور بانتساب الكائن الإلهي " حورس " أو" هرمس الحكيم " أو" النبي إدريس " لها؛ وإن كان بعض الغربيين يزعمون لها هذه القداسة – كما سيتبين في مقالات قادمة - فما كان هذا منهج المسيري الذي نجوب في رحابه ونحلق في سمائه ولكن نذكر الحقائق في محاولة لتلمس الحقيقة . ولن نتجاوز طريقة فهم المسيري المنصفة للتاريخ .

وكما يقول الدكتور محمد عمارة : كل الناس يرددون : " مصر أم الدنيا " .. لكن يبدو من حقائق هذه الدراسة [15] .. " أن مصر هي أم الدنيا والدين أيضا " ..

فعلى هذا لوثبت بالمنطق العلمي عن طريق التتبع التاريخي في رؤية استقرائية كون مصر هي موطن " سيدنا إدريس " أول رسل السماء والملقب بـ " هرمس الحكيم " مؤسس الحضارة الإنسانية بإجماع الإنسانية ، وكون إقليم البحيرة هو موطنه ، وكون هذا الإقليم لم ينقطع فيه التاريخ ولم تنقطع فيه الحياة منذ بدء الخليقة إلى الآن ؛ فإننا بهذا المنطق نتكلم عن ( منطقة انطلاقة الإنسانية العاقلة ومهد التوحيد في العالم ) .

كامل رحومة في 17 إبريل 2011 م .

( الحلقة القادمة : أثر دمنهور على المشروع الفكري والإنتاج المعرفي للمسيري )



[1] عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، ص21 .

[2] حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، تحرير سوزان حرفي، ج1، ص79 .

[3] رحلتي الفكرية، ص22.

[4] أنظر : علي جمعة، وآخرون، بناء المفاهيم، دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، ج1.

[5] ناصر الأنصاري، المجمل في تاريخ مصر، ص16. وكذا:علاء عبد العزيز، تاريخ مصر القديم، ص 36. وكذا:محمد محمود زيتون،إقليم البحيرة،ص277،وما بعدها.

[6] علي فهيم خشيم، آلهة مصر، ج1، ص38 .

[7] المرجع السابق، ص233، وكذا مختصر موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، إعداد عريان لبيب حنا، ج1، ص147.

[8] سيد كريم، لغز الحضارة المصرية، ص300.

[9] موسوعة وصف مصر، ج 24، ص136.

[10] مصطفي النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، ص38.

[11] علاء الدين عبد المتعال، هرمس مثلث الحكمة بين الأسطورة والواقع، ص 10.

[12] دوجلاس بريور، و إيملي تيتر، مصر والمصريون، ترجمة عاطف معتمد ومحمد رزق، ص287 – 290.

[13] موسوعة وصف مصر، ج 24، ص130 – 136.

[14] يرجع في ذلك : لكتاب حضارة مصر القديمة وآثارها، ج1، لعبد العزيز صالح، وكتاب الأولة مصر، لإيهاب قاسم، وكتاب نزول النقطة لجمال الغيطاني.

[15] يقصد دراسة بعنوان أنبياء مصر عبر التاريخ، بمجلة منبر الإسلام، السنة 69، العدد 6، مايو– يونيو2010، وقد ذكر فيها كون سيدنا إدريس هو رائد الحضارة ومعلم الإنسانية الأول .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

إنشرها على :

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites