١٤ يناير ٢٠١٢

المقال الثالث من سباعية " أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

العبقرية الفكرية للأمكنة – إقليم البحيرة نموذجا :

" أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "( 3 / 7 )

الحلقة الثالثة : أثر دمنهور على المشروع الفكري و الإنتاج المعرفي للمسيري :

حقيقة مؤكدة باتت إحدى المسلمات اليقينية لأي باحث منصف يحاول الولوج في المشروع الفكري للدكتور " عبد الوهاب المسيري " ؛ فهو لن يحتاج لكثير جهد كي يدرك اعتياد " المسيري " الدائم المستدام على استبطان دمنهور فكريا في كل نماذجه التفسيرية ، و كل مقولاته التحليلية . مع ملاحظة أن كل ارتباطاته بها ارتباطات فكرية ، و الرصد هنا للأفكار فقط . فمنذ بداية سيرته ( رحلتي الفكرية ) و هو يستبطن المدينة ، و باقي الإقليم لدرجة فاقت درجة كل بار بأمه و بأمته ؛ مما ينبئ بحقيقة كون شخصيته العلمية قد بنيت على أساس أصله في الإقليم ، و فرعه في السماء .

و من أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

1. اعتماده نهاية كل مؤلفاته بذكر دمنهور :

و قد بلغت درجة تأثير مدينته – دمنهور – على مشروعه الفكري ؛ أنه كان يعتمد في نهاية كل مؤلفاته بالكامل – بما فيها الموسوعة – بذكر اسمه مذيل بالزمان ، و مذيل بالمكان بصيغة ( دمنهور – القاهرة في تاريخ ....... ) . و يعلم الله ثم الراسخون في معرفته أنه كان ليس له منزل أو مكتب أو حتى ركن صغير في دمنهور يمارس فيه الكتابة و التأليف منذ أن غادرها عند دخوله الجامعة ، و أشهد و يشهد معي أحد أهم أقربائه – ابن عمه الأستاذ عبد الله المسيري – أن زياراته لدمنهور كلها كانت زيارات عابرة ؛ مما يدعو لتساؤلات هامة تفرض نفسها ؛ و منها : هل كان الإقليم في عقله و قلبه – على حد تعبير أسرة فيلم ديوان المديرية – لهذه الدرجة ؟ ، و هل بلغ تأثره الفكري بالمدينة لهذا الحد ؟ أم أن في هذا الإقليم شيئا ما دعاه لهذا ؟ . لكن يبدو أن المسيري ( صاحب النزعة الطقوسية المعروفة ) لم يغادر دمنهور فكرا ؛ رغم مفارقته لها جسدا ، إلى أن جاءه اليقين فاستقر بها جسدا ( طيب الله ثراه ) .

2. التعريف الدائم بنفسه - فكريا - على أنه دمنهوري الهوية الفكرية :

بقوله عن نفسه باستمرار أنه : دمنهوري مصري عربي مسلم – خاصة – في المواقف الفكرية ؛ و من ذلك على سبيل المثال لا الحصر : ما قاله في امتحان الدكتوراه الذي نال عنه أعلى درجة تمنح في الولايات المتحدة (with Distinction ) : " طلب منى أن أضع وصفا لمقرر لدراسة تاريخ النظرية النقدية الأدبية و بطبيعة الحال كنت أعرف أنهم يريدونني أن أبدا بأرسطو أو أفلاطون و لكنني قررت أن أصدمهم فقلت : " الجرجاني " لأذكرهم بهويتي : دمنهوري مصري عربي مسلم يطل عليهم كأحد علماء الأنثربيولوجيا و يدرس حضارتهم دون أن يكون جزءا منهم " ثم يقول اعتزازا : " فلقد بينت لهم حدود معرفتهم و جهلهم تماما بخلفيتي الثقافية ".

3. تدشينه لمقولات تحليلية خاصة لدمنهور تميزها عن غيرها :

و قد وصل الأمر به أن دشن لمدينته الحبيبة كثيرا من المقولات التحليلية التي صكها تعبيرا عن نموذجها الإدراكي المكاني و الزماني مثل مقولة : " المقدرة غير العادية للدمنهوري على البقاء " ، و قد كرر هذه المقولة غير مرة . و مثال ذلك : ما واجهه من مشكلة في استيعاب اللغة الإنجليزية في الكلية و قوله في ذلك : " و بمقدرة الدمنهوري غير العادية على البقاء قررت التحرك بسرعة لأكتشف الآليات الجديدة المطلوبة لتحقيق البقاء و أهمها إجادة اللغة الإنجليزية فحبست نفسي في غرفة لمدة شهر كامل لا أسمع إلا الإذاعات المتحدثة بالإنجليزية و لا أقرأ سوى الجرائد والمجلات الإنجليزية و عدت بعد الفصل الدراسي الأول و قد تملكت ناصية اللغة بشكل أدهش أساتذتي " . و قد دشن مقولة أخرى و هي : " عزيمة الدمنهوري " ، و خاصة وقت الأزمات ، كأنما صنع الدمنهوري عنده لمواجهة الأزمات .

4. وصفه لعلاقته بماضي دمنهور و حاضرها بعلاقة علماء الاجتماع الألمان بماضي ألمانيا و حاضرها :

حيث يرى أن ظروف ألمانيا التي أنتجت " ماكس فيبر " و " ماركس " و " هربرت ماركوز " هي نفس ظروف دمنهور أبان نشأته فيها ، حيث يقول : " و أعتقد أن علاقتي بدمنهور بماضيها وحاضرها تشبه إلي حد كبير علاقة علماء علم الاجتماع بماضي ألمانيا و حاضرها . و لعلنا لو درسنا خلفية كثير من المثقفين المصريين ( و خصوصاً الثوريين ) فسنلاحظ أنهم عاشوا لحظات انتقال مثل هذه . و لعل هذا يفسر الخلفية الريفية لكثير من مثقفي مصر ممن أدوا دوراً في تاريخ مصر السياسي و الثقافي الحديث " . ، مما يدعونا لفهم إيماءاته على كون البيئة الفكرية بهذه البلدة لها عبقرية خاصة لإنتاج المثقفين ، و خاصة الثوريين منهم .

5. إقراره أن خلفيته الدمنهورية و البحراوية عمقت من نزعته النقدية للغرب العلماني :

حيث يقول عن ذلك : " و أعتقد أن هذا الجانب في خلفيتي الثقافية هو ما جعلني أحاول اكتشاف الأدبيات الاحتجاجية في التراث الغربي ، و هو ما جعلني لا أنبهر بالمجتمع الأمريكي ، فنقطتي المرجعية كانت دائماً هي المجتمع الزراعي التراحمي " .

6. عقده لمقارنة بحثية بين لندن و دمنهور في " ملحمة الفردوس المفقود " :

فقد بلغت دمنهور في تأثيرها الفكري عليه و على أدواته البحثية مبلغا لا ينافسها في ذلك أحد ، حتى أنه و هو في أثناء نقده لملحمة الفردوس المفقود الشهيرة عقد مقارنة بين لندن التي عاش فيها الشاعر الإنجليزي الكبير جون ملتون ( John Milton ) مؤلف الملحمة و دمنهور التي عاش هو فيها ، و قد كان رد فعل البروفسير جون ستبس ( John Stubbs ) أن أعطاه الدرجة النهائية العظمى ، بل و أخبره فيما بعد : " أنه لو كان بوسعه أن يعطيه أكثر من هذا لفعل إذ أن ما قاله المسيري كان جديدا تماما " .

7. استبطانه لدمنهور عند عقد مقارنة طريفة بينه و بين أرسطو لشرح فكرة العقل التوليدي .

و قد كانت مقارنة مازحة الهدف منها تعليمي ؛ إلا أنه استبطن دمنهور تفاخرا في ذلك ، و هو يبرر ذلك قائلا : " و كنت أحاول أن أنقل لطلبتي و طالباتي فكرة العقل التوليدي و مقدرته على الإبداع ( في مقابل العقل السلبي الفوتوغرافي المتلقي ) بطريقة درامية .

8. تصريحه بتعلمه مقولتي التراحم و التعاقد في دمنهور :

و ذلك حسب تصريحه : بأن مقولتي ( التراحم و التعاقد ) و التي تعد كل منهما أحد أهم المقولات الفلسفية في خطابه التحليلي التي يفسر بها قد تعلمها في دمنهور ، و هما المقولتان اللتان تفسران نمطي ( الجيزيلشافت Gesellescjaft ) و ( جماينشافت Gemeinschaft) عند علماء الاجتماع الألمان . لأنه وجد في دمنهور أن هناك حسابات أخرى غير مادية و غير أنانية تشكل مكوناً أساسيا في العلاقات بين الناس ، حتى في التجارة .

9. تصريحه بأثر المقارنة التي عقدها بين دمنهور و الإسكندرية في إدراكه لإشكالية التحيز المعرفي :

إن المتفهم لرحلة المسيري الفكرية ليدرك قدر قيمة أطروحة إشكالية التحيز في مشروع المسيري العلمي و المعرفي ، و هي الأطروحة التي استنفر لها أعداد من العلماء و المتخصصين و المفكرين و المهتمين بالثقافة شاركوا معه في صياغتها في سبعة أجزاء ، و هو يقر أن لدمنهور أثر في إدراكه لهذا البعد المعرفي .

10. تصريحه بأن أهم ابتكاراته في اكتشاف نموذج " الجماعة الوظيفية " يعود بالدرجة الأولى إلى نشأته في الإقليم :

و نموذج " الجماعة الوظيفية " أحد أهم المفاهيم التحليلية التي يستخدمها كنموذج تفسيري داخل موسوعة " اليهود و اليهودية و الصهيونية " . و هو يقرر أنه يعود بالدرجة الأولى إلى تجربته الحياتية في إدراكه للفرق بين التعاقد و التراحم في دمنهور ( فالجماعة الوظيفية جماعة تعاقدية لا تدخل في علاقة تراحمية مع المجتمع ) لأنها ليست منه . و يقول عن ذلك : " و قد لاحظت الفروق الواضحة بين البرجوازية الريفية و البرجوازية الحضرية ، مما جعلني أتوصل إلى أن موقع الإنسان الطبقي وحده لا يحدد موقفه ، و أن هناك عناصر غير اقتصادية ( مثل الانتماء و الثقافة ) تمتزج مع العناصر الاقتصادية ، بحيث لا يمكن فصل الواحد منها عن الآخر " .

11. مقارنته الذكية بين علاقة كل من اليهود و الدماهرة بالتاريخ داخل الموسوعة لدحض زعم اليهود بمعجزة البقاء اليهودي :

في إطار فخر اليهود ببقاء اليهود و اليهودية عبر الأزمان ، و إلى الآن ؛ يشرح المسيري – في الجزء الرابع من الموسوعة - جمود اليهود و اليهودية على تدين لا وجود له ، و يثبت لهم احتفاظهم بالشكل ، و ينفي عنهم تمسكهم بالمضمون ، و يقارنهم بتدين الدماهرة الذين هم أقدم - تاريخيا - من اليهود ، حيث نفى عن أهل دمنهور الجمود على شكل انتمائهم لحورس القديم ، و أثبت لهم دورانهم مع الحق المتجدد في ثباتهم على مضمون التوحيد لله عبر الأزمان ؛ فبقاء دمنهور حجة إلهية لدحض زعم اليهود بخرافة " معجزة البقاء " .

12. إقراره أن دمنهور سبب في تنبؤه بالانتفاضة الفلسطينية قبل وقوعها :

و ذلك في عام 1984 م داخل مقال بجريدة " الرياض " بعنوان " إلقاء الحجارة في الضفة الغربية " تنبأ فيها بالانتفاضة قبل وقوعها بأعوام ، و بأن استخدام الحجارة سيكون أحد أهم أشكال النضال الأساسية . ثم إقراره بأن هذا النموذج تكون عنده في دمنهور . و هناك من الشواهد الكثيرة التي تؤكد استفادة قيادة الانتفاضة من توقعه هذا ؛ مما ينقله من مربع التوقع و التنبؤ إلى موقع التحريض ، و قد كان .

13. حديثه عن أثر دمنهور في كونه باحثا مثابرا :

حيث يقول : " هذه النشأة جعلتني باحثا مثابرا ، ثم يستطرد قائلا : و عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة ، و لم يكن عندي أي مصدر دخل إضافي لتغطية نفقاتي ، و لم يكن من الممكن تحويل أي أموال من مصر ، اضطررت للعمل خفيرا في مصنع في الولايات المتحدة ، و ما كان بوسعي أن أتحمل ذلك دون طريقة والدي في التنشئة " .

14. حديثه عن أثر دمنهور عليه في إيمانه بفكرة المجتمع و بالجماعية :

حيث يقول : " هناك جانب آخر تعلمته في صباي و جزء من شبابي في دمنهور هو الإيمان بفكرة المجتمع فالإنسان ليس فردا مطلقا بل من مجتمعه . السائد الآن أن كل مجتمع يتكون من أفراد ، و أن الفرد يسبق المجتمع . و لكني تعلمت في دمنهور أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه ( فالمجتمع التقليدي زاخر بالشخصيات المتنوعة على عكس ما يتصور الكثيرون ) " .

15. إقراره أن اشتغاله بالعمل السياسي و إيجابيته للعمل العام تعلمهما في دمنهور :

فقد كون و أصدقاؤه من أبناء شارع الأنصاري بدمنهور جمعية سرية لمحاربة الإنجليز ، و هو في السابعة من عمره ؛ مما له دلالته أن ( لعب العيال ) عنده كان يأخذ هذا الشكل السياسي الوطني . و قد اشترك أيضا بحماسة بالغة في مظاهرات الطلبة ضد الملك فاروق في أوائل الخمسينيات عندما أقال وزارة الوفد التي ألغت معاهدة سنة 1936 ثم عين حافظ عفيفي رئيسا للديوان الملكي . كما شارك في مقاطعة البضائع الإنجليزية . كما شارك في إضرابات الطلبة ، و كان الشاعر الكبير "فتحي سعيد " رحمه الله من زعماء الطلبة في دمنهور الثانوية ، و عبر عن مواقفه السياسية في صغره ؛ فكان هناك مثلا يوم الشهداء و ذكرى وعد بلفور و ذكرى حادثة كوبري عباس ، و في عاما 1950 م و 1951 م شارك في التظاهرات الدائمة ضد الملك . و تأثير مدينة دمنهور في التنشئة السياسية على أبنائها تكلم عنه غير واحد من العظماء و المشاهير ؛ منهم على سبيل المثال : الإمام " حسن البنا " الذي استفاض – في سيرته الذاتية - عن الحديث عن الأثر السياسي لإقامته في دمنهور إبان دراسته في مدرسة المعلمين .

16. مقولاته المتعددة عن أثر مكتبة دمنهور في تكوينه :

حيث يقول عن سبب تألقه الفكري و العلمي : " و كان ذلك من تأثير زيارتي الأولى لمكتبة البلدية في دمنهور التي كانت بمثابة نقطة تحول في حياتي " ، كما قال : " و يمكن القول أنني دخلت مكتبة البلدية في دمنهور و لم أخرج منها حتى الآن " ، و مثل قوله : " أنها بالنسبة له تحوي كل المعرفة الإنسانية " ، و مثل قوله : " أن زيارتة للمكتبة كانت تشكل لحظة فارقة في حياته " . و المتابع لتأثير هذه المكتبة على كبار رجالات الفكر و الأدب في مصر و الوطن العربي ؛ لتتملكه الدهشة من بالغ تأثرهم بها ، و منهم على سبيل المثال لا الحصر : الشاعر الكبير " عبد الرحمن شكري " ، و الكاتب الجهبذ " كامل كيلاني " ، و الأديب الكبير خيري شلبي في مقالات عديدة و في رواية " وكالة عطية " ، و الأديب الكبير " سعد الدين وهبة " الذي أرخ لعلاقته بهذه المكتبة من بين كل المكتبات ، و كذا الأديب الكبير " يوسف القعيد " الذي شبه علاقته بهذه المكتبة بعلاقة الدكتور عبد الوهاب المسيري بها .

17. تصريحه بأثر مقهى الأستاذ عبد المعطي المسيري بدمنهور على تكوينه الإبداعي :

و قد بين أن نشأته جاءت من نسيج الجو العام لمقهى المسيري و الذي كان مكتظا بالمشاهير؛ حيث يقول : " و كان بيننا شاعر العامية حامد الأطمس و الشاعر فتحي سعيد - رحمهما الله - كما تعرفت على محمد صدقي كاتب القصة و عبد القادر حميدة و غيرهما . كان المقهى هو بيت الثقافة في دمنهور . و كان أمين يوسف غراب يتردد عليه و قيل لي أن يحيى حقي و محمد عبد الحليم عبد الله و غيرهما من المشاهير من أبناء البحيرة و ممن عملوا فيها كانوا من رواد هذا المقهى الأدبي " .

18. اهتمامه في الموسوعة ببيان نظرة اليهود إلى مدينة دمنهور التاريخية لوجود أبو حصيرة فيها :

حيث تتبع تاريخ " أبو حصيرة " ، و نفى العلاقة التاريخية بينه و بين مدينة " دمنهور " كموطن له .

19. إصراره على شرح أهم مميزات الدماهرة النابعة من تدينهم في تقديرهم للنعمة - الذي يفهم خطأ على أنه بخل – بتفسيره داخل نموذج التدوير الاقتصادي الحديث (recycling ) الذي يسميه ( الحس البيئي الدمنهوري ) عندما تبدد الموارد ، بل و يطرحه كنموذج عملي للتنمية :

فكما هو معلوم أن الرسول صلى الله عليه و سلم قد نهى عن الإسراف في استعمال الماء و لو في الوضوء ، و النظم الحديثة في المجتمعات الحديثة تدعو لما يسمى بـ " الاقتصاد " بل و تصنع له هيئات و وزارات ؛ بيد أن فضيلة الاقتصاد هذه متأصلة في جذور المجتمعات التقليدية و التي ينتمي إليها الإقليم ، و هو يقرر ذلك قائلا : " و المجتمع الدمنهوري – شأنه شأن المجتمعات التقليدية – يرفض التبديد و يقدر ( نعمة الله ) فإذا سرنا و وجدنا قطعة من الخبز كان علينا أن نلتقطها ، و بعضنا كان يقبلها ثلاث مرات ثم يضعها إلى جوار الحائط حتى لا يطأها أحد بقدميه . و كانت خبرات التدوير ( بالإنجليزية : ريسايكلنج recycling ) قويه للغاية في المجتمع ، فكان لا يلقى إلا بأقل القليل في سلال القمامة . أما بقيه الأشياء فكان يتم تدويرها : أوراق الجرائد – علب الأكل المحفوظ – قشر البطيخ و لبه – بقايا الطعام . كل شيء كان يمكن إعادة توظيفه " . بل و يدعو لممارسة هذا النموذج و يدعو لتطبيقه ، و مثال ذلك ما حدث له و هو مريض حيث يقول: " حينما دخلت المستشفى لإجراء عملية جراحية في عمودي الفقري فقد فوجئت بالقدر الكبير من الورد و الشيكولاتة ، و الذي يعبر عن حب أصدقائي و لكن حسي البيئي الدمنهوري استيقظ مرة أخرى و طلبت من مساعدي أن يتصل بأصدقائي ليخبرهم بمواعيد الزيارة و شروطها : ألا يحضر أحد وردا أو شيكولاتة و أن يعطى لأحد المساكين مالا و يطلب منه أن يدعو لي بالشفاء و قد امتثل بعض الأصدقاء لطلبي . كما كانت زوجتي تقوم بتوزيع الورد و الشيكولاتة التي جاءت إلي على الجميع خارج غرفتي " . و هذه المزية في المجتمع الدمنهوري قد بدأت تتلاشى أو تندثر بفعل التحديث و التنميط الذي تفرضه الصيغة الاستهلاكية الغربية على مصر، لأن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب ، و لا حول ولا قوة إلا بالله .

20. استدعاؤه للنموذج الإنساني الذي تعلمه في مسجد الحبشي بدمنهور عند مقابلته لمخترع القنبلة :

حيث قارن بين العلم النافع الذي تعلمه في مسجد الحبشي ، و العلم الذي لا ينفع الذي أخترعه " أوبنهايمر " .

21. تشكيله مع آخرين إتحادا لطلبة مدينة دمنهور في الولايات المتحدة :

و ذلك في ولاية منيسوتا عام 1966 م ، مع زميله ابن العائلة العريقة في دمنهور - عائلة اللبودي – و هو يقول معلقا على هذا الحدث : " و أدركت مدى قوة الانتماء للعائلة أو القبيلة أو المكان في المجتمع التقليدي " .

ثم أما بعد .. لقد بات مجزوما لدى وجدان الباحث وثوق الصلة بين المشروع الفكري للمسيري و بين بذوره في إقليم البحيرة . و هنا سؤال : هل ما فعله المسيري مع دمنهور، فعله من باب البر و فقط ؟ . أم أن بهذه المنطقة شيئا ما يجعلها تنتصب على كبد قوس الموارد البشرية لمصر كعاصمة ثقافية لها تمدها بثلة من العلماء و المفكرين كلهم يتسمون بنزعة التجديد – كما سنرى في الحلقات القادمة – و هل هذا مما جعل رجلا من خيرة علماء عصره – القرن الحادي عشر الهجري – كإبراهيم العبيدي ( صاحب أعلى الأسانيد القرآنية في مصر و الشام ) ، و هو حجة ثبت يكتب عن هذا الإقليم مؤلفا كبيرا يثبت فيه بالأدلة التي لا يعرف مثل هذا الرجل إلا القطعي منها ؛ كون إقليم البحيرة إقليما ديموغرافيا خاصا يحوي ثلة نادرة من الطاقات البشرية تسبح في بيئة ثقافية خاصة موروثة فيه منذ قدم التاريخ ، و ممتدة إلى ما شاء الله لها أن تكون ، و قد أسمى هذا الكتاب : " أدلة التسليم في فضل البحيرة على سائر الأقاليم " ؟ !! .

ما سبق يدعو الباحث إلى تبني مدخلا تاريخيا لمعرفة الثقافة الخاصة الموروثة في هذا الإقليم .. و عليه نبدأ في الحلقة القادمة بتتبع دور الإقليم في صناعة النسيج العالمي للحضارة الإنسانية . و بداية ذلك إثبات صحة النسب ما بين هرمس الحكيم - ابن دمنهور و الأشمونين – و هو ما يسمى في المصرية القديمة بـــ " الإله تحوت " و سيدنا إدريس عليه السلام .. فإلى لقاء .

( الحلقة القادمة : من هو هرمس الحكيم ؟ .. و ما هي الهرمسيات .. و ما هي العلاقة بين هرمس و كل الحضارات في كل العالم قديما و حديثا ) .

المراجع :

1. عبد الوهاب المسيري ، رحلتي الفكرية ، دار الشروق ، القاهرة ، ط 3 ، 2008 م ، ص 11 ، 23 ، 24 ، 29 ، 52 ، 54 ، 64 ،65 ، 118 ، 130 ، 133 ، 148 ، 156 ، 179 ، 269 ، 345 ، 441 ، 592 .

2. حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري ، تحرير سوزان حرفي ، دار الفكر ، دمشق ، ط 1 ، 2009 م ، ج 1 ، ص 20 ، 23 ، 24 ، 30 ، 32 ، 250 .

3. عبد الوهاب المسيري ، موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية ، نموذج تفسيري جديد ، المجلد الرابع ، دار الشروق ، القاهرة ، ص 37 ، 38 ، و المجلد الخامس ، ص 282 ، 283 .

4. عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه و نقاده ، سلسلة علماء مكرمون ، ص 675 .

5. حسن البنا ، مذاكرات الدعوة و الداعية ، دار الدعوة ، الإسكندرية ، مبحث " أيام دمنهور " .

6. خير الدين الزركلي ، الأعلام ، ج 1 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، الطبعة السادسة عشرة ، 2005 م .

7. مقال بعنوان " سعد الدين وهبة عاشق المحروسة " بقلم الأمير أباظة ، بجريدة القاهرة ، العدد 509 ، بتاريخ 9 / 2 / 2010 م .

8. ديوان المديرية ، فيلم تسجيلي عن رحلة المسيري الفكرية ، للمخرجة لمياء جودة ، و إنتاج قناة النيل للأخبار .

المقال الثاني من سباعية " أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

العبقرية الفكرية للأمكنة – إقليم البحيرة نموذجا :

" أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

الحلقة الثانية : عبق التاريخ في مدينة المسيري :

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في رحلته الفكرية : " ولدت في دمنهور، عاصمة البحيرة، وهي مدينة صغيرة في دلتا مصر تقع بالقرب من الإسكندرية . وحينما نشأت فيها طفلا، كانت تتميز ( من منظور رحلتي الفكرية ) بوجود عبق التاريخ فيها، برغم أنه لا توجد فيها آثار فرعونية أو قبطية أو إسلامية . وقد عرفت ممن هم أعلم منى بالآثار، أن هذه هي الحال دائما مع المدن الصغيرة التي تستمر فيها الحياة عبر العصور( على عكس المدن التي يتوقف فيها التاريخ وتدفنها الرمال ) . إبان نشأتنا في دمنهور كانوا يخبروننا أن اسمها هو( دم نهور ) لأن الدماء، كما قالوا لنا حينذاك، سالت فيها أنهارا في أثناء إحدى المعارك الحربية في الماضي . ثم عرفنا فيما بعد أن هذه التسمية فلكلورية، وأن دمنهور هي ( دمن حورس )، أي ( مدينة الإله حورس ) ". ثم يتابع قائلا : " عرفنا أن دمنهور من أقدم مدن العالم، وأنها كانت عاصمة الوجه البحري قبل توحيد القطرين ( يقال إنها هي ودمشق المدينتان الوحيدتان اللتان استمرت فيهما الحياة بدون انقطاع مع احتفاظهما باسميهما اللذين عرفا بهما في الماضي )"[1].

إن القول من قائل أيا من كان عن أي مدينة أيا ما كانت : أن بها عبق التاريخ؛ لا يضاهي بأي حال من الأحوال قول المسيري حين يقول ذلك، لأن التاريخ عند المسيري يعني الإنسان بإطلاقه، فكون الإنسان كائنا تاريخيا يعني أن الإنسان هو خالق الحضارة ومبدع لها [2]. وكذا يعني أن الإنسان في اللحظة الراهنة يوجد في نقطة يلتقي فيها الماضي والمستقبل ، وأن الإنسان كفرد ليس هو البداية والنهاية [3]؛ فالإنسان عنده الذي بدون تاريخ يعتبر شيء يبحث عن اللذة الآنية؛ فهو ليس له مرجعية وكذلك ليس له مستقبل ( أي يستهلك الأرض ولا يبقي شيئا للأجيال القادمة ) . لذا كان أول من انتقد فكرة " نهاية التاريخ " التي تنفي الماضي والمستقبل معا، وصك المصطلح قبل الفيلسوف المعاصر الشهير " فوكاياما " بخمسة عشر سنة كاملة؛ والذي اقترن المصطلح به، وهي الفكرة التي يؤمن بها الصهاينة وكذا الأمريكان، حيث أن تنكر الأمريكان للتاريخ منبعه أنهم حضارة استيطان، والاحتكام للتاريخ يعني الاعتراف بأصحاب الأرض الأصليين ( الهنود الحمر ) .

وهذا الكلام من المسيري عن التاريخ يتوافق مع رؤى كثير من الإسلاميين للتاريخ، فابن كثير مثلا يرى : أن التاريخ في الرؤية الإسلامية وحدة واحدة متماسكة، له بداية وله نهاية، ونحن في نقطة الوسط بينهما، وهذا ما يفسر تسميته لأهم كتبه عن التاريخ بالبداية والنهاية . فالمسيري حين يقول عن دمنهور أن بها عبق التاريخ يعني أن بها عبق الإنسان، وأنهم أصحاب الأرض، وهو ما يؤكد عليه حين يقول : أنه ليس بها آثار تذكر، أي أنها ليست مدينة متحفية؛ بل مدينة إنسانية – إن جاز التعبير- أي أن إقراره لدمنهور أن بها عبق التاريخ، وكذا إقراره بأن الحياة استمرت فيها منذ بدء الخليقة إلي الآن بدون انقطاع، وكذا إقراره بندرة الآثار فيها لهو اعتراف صريح صحيح بفضل هذه المدينة، وتميزها الحضاري؛ بل وريادتها في ذلك . وكون آثارها تمثلت في الإنسان الباقي عبر العصور بإنسانيته وخبراته؛ وليست كما مدينة الأقصر التي تمثلت آثارها في المباني والعمران وفني فيها الإنسان . ولإن كان بعض متخصصي علوم الحضارة [4] يفرقون بين شقي الحضارة ( المدنيةCivilization والثقافة Culture ) ويعتبرون أن ( المدنية Civilization) هي الجانب المادي في الحضارة، و( الثقافة Culture ) هي الجانب الإنساني في الحضارة؛ فإن دمنهور تمثلت الحضارة فيها في الثقافة، وهذا أمر جلي لكل ذي لب وكل صاحب عين ناقدة، مما يجعل سهم هذه البلدة يوضع على رأس قائمة الموارد البشرية في كنانة مصر المحروسة، فالطاقات البشرية أهم مصادر التنمية ولا ريب .

والحق التاريخي ينطق بصدق المسيري في نظرته لمدينة دمنهور . فهي من أقدم المدن الأولى للعالم، بل وعاصمة لأقدم تجمع حضاري في العالم أجمع، وكان هذا التجمع عبارة عن دولة تسمى مصر السفلي التي كانت قطرا مستقلا، ثم سميت فيما بعد بالوجه البحري بعد توحيد مينا للقطرين في أول عهد الأسرات . وكان هذا القطر يحكم بمجلس نيابي حكما شوريا – أو بالمنطق الحديث ديمقراطيا – حيث تعتبر عاصمة أول تجمع ديمقراطي في التاريخ الإنساني وهو الوجه البحري[5] ( أو مصر السفلى )، الذي كان في هذا الوقت أكثر مدنية وتطورا من الوجه القبلي ( أو مصر العليا ) آنذاك[6]. وتعتبر لوحة الملك نارمر( أو مينا ) بوجهيها - المسماة بصلاية نارمر – أحد الأدلة على ذلك، وكذا تعاليم الملك " خيتي "[7]، بل ورد في برديات قوائم مانيتون ما يدل على تقدم النظم السياسية، وحبكة أنظمة الحكم الإدارية في دمنهور قبل توحيد القطرين على يد " نارمر" [8]. وها هم علماء الحملة الفرنسية يقررون في كتاب " وصف مصر " أن سكان إقليم البحيرة القديم هم الذين أسسوا مدينة " أثينا " درة تاج الإمبراطورية الإغريقية تقليدا لمدينة " سايس " أو" صا الجحر " أحد أهم مدن إقليم البحيرة القديم "، والمرتبطة تاريخيا وجغرافيا بعاصمة مصر القديمة " نقراطيس " – كوم جعيف الحالية - بإيتاي البارود، وأن " سيكروبس " مؤسس أثينا من مواليد إقليم البحيرة [9] .

ومن المسلم به أن الباحثين الموضوعيين يقررون حقيقة موضوعية هامة وهي أن : الحضارة المصرية القديمة كانت مرحلة أولية لكل الحضارات اللاحقة لها . وها هو هنري توماس أحد المؤرخين الغربيين يعبر عن ذلك بقوله : " إنه على أرض مصر عاش الحكماء الأوائل العظام في التاريخ . ويمكن أن نعتبر هذا القطر معلم الإنسانية الأول "[10]. وكون الحضارة المصرية القديمة كانت مرحلة أولى لكل الحضارات بل أساسا لها؛ يدعو للبحث عن سر ذلك، وإن كان " جريمال " قد تحسس بعضا منه حيث يقول : " السر الأول من أسرار مصر هو استمراريتها "[11]. فالسر إذن في استمرارية مصر عبر العصور، شاهدة على كل تطور وتغيير . والكاتبين دوجلاس بريور و إيملي تيتر يشككان في صحة مقولة : " موت الحضارة المصرية القديمة بالكلية " لأنها من وجهة النظر العامة لا تتناسب مع حجم المظاهر العديدة للثقافة المصرية التي استمرت إلى يومنا هذا ، ويسمونه تحولا وليس موتا[12]. وتبعا لــ "جريمال " في مرجعية الاستمرارية عنده، و كذا إقرار " بريور" و" تيتر" له؛ فإن المدن المصرية التي استمرت الحياة فيها بدون انقطاع هي أكبر شاهد ثقافي على كل هذا، وهذا لم يتوفر سوى لإقليم البحيرة عامة ومدينة دمنهور خاصة ولم يتمتع أي إقليم من أقاليم مصر بهذه المزية بما في ذلك الإسكندرية نفسها - كما سيأتي بيانه - وبلد استمرت فيها الحياة بدون انقطاع؛ لهي بلد تتوفر فيها مؤهلات هذه المرجعية التي ذكرها " جريمال ".

وهذه فكرة لم ينتحلها المسيري لتمييز مدينته فما كان هذا دأبه ولا منهجه ولا قصده . خاصة وإن علماء التاريخ والحضارة، وكذا الآثار؛ يرصدون هذه السمة بمظاهرها وخصائصها في مصر كلها، وبالذات في المدن التي استمرت فيها الحياة بدون انقطاع فهذه المدن هي الصورة الفعلية لمصر الممتدة عبر العصور.

وليس أدل على ذلك ما ذكره علماء الحملة الفرنسية في كتابهم الميداني " وصف مصر" : من أن المؤرخ المقدوني " سترابون " – وهو الذي يعد أحد أهم المرجعيات التاريخية القديمة – حين قام بمسح ميداني للمدن القديمة خلال زيارته للمنطقة كان جل اهتمامه في تحديد المواقع الأصلية لأهم مدن العالم القديم ( دمنهور وبوتو ونقراطيس وسايس )، ولم يستطع تحديد المواقع على وجه الدقة، وأخطأ في تحديدها جميعا إلا مدينة دمنهور، وذلك لاستمرارها وعدم انقطاع الحياة فيها[13].

ولهذه الاستمرارية دلائل وبراهين؛ منها على سبيل المثال لا الحصر[14] : استمرار المسميات المصرية القديمة في أسماء مدن وقرى معاصرة كثيرة، مثل أسوان وجرجا وقوص وقفط والسنطة وسندهور ودمنهور وشبراخيت وصا الحجر، ويطلقون كلمة " شبرا " في المصرية القديمة على الأرض المرتفعة، وإقليم البحيرة به أكثر من مكان يحمل نفس الاسم . وكذا : احتفاظ المزارعين بأسماء مصرية قديمة لشهور الزراعة، مثل : شهر " توت " نسبة إلى المعبود الدمنهوري تحوتي رب القمر والحساب والحكمة، وشهر " هاتور " إلى المعبودة حاتحور، وشهر " بؤونة " و" طوبة " و" برمهات " و" أمشير " .. إلخ . وكذا : استمرار بعض أسماء العائلات الكبيرة والتي في اسمها دلالة لغوية مصرية قديمة، وبعضها لها جذور من إقليم البحيرة خاصة، ومنها : عائلة " الشناوي " نسبة للشونة التي تعنى بتخزين الغلال ومنها كلمة مشنة، وعائلة " الصاوي " نسبة لبدة " صا " أحد أهم مدن الإقليم القديمة . وكذا : استمرار بعض التعبيرات الدارجة الحديثة والأسماء والصفات والأفعال التي لها معنى أو دلالة في اللغة المصرية القديمة . مثل : قولة " إدي " بمعنى اعطي، ومثل قولة " مأأ " لإطالة النظر، و" تف " و" نف " و" كاكا "، و" كركر " بمعنى ضحك عاليا، و"عفأ " بمعني أمسك، و" بح " بمعنى انتهى، و" سك " بمعنى ضرب، و" طنش " بمعنى تجاهل، و" برطم " بمعنى لخبط، و" بربش " لتحريك الجفون، و" ست " بمعنى سيدة، و" ننة " بمعنى طفل صغير، و" كحكح " بمعنى عجوز، و" مدب " بمعنى كثير العثرات، و" شونة "، و" طمي "، و" بيبة " بمعنى برغوث، و" واوا " للألم، و" فول "، و" سومي " للخضار بدون اللحم، و" حلولي " لمداعبة الأطفال، و" امبو" في الحديث إلى الأطفال، و" بوري " للسمك، و" ننوسة " بمعنى جميلة، و" تاتا " للمشي، و" كخ " للقذارة، و" بس " و" طخ " للصوت المفاجئ المرتفع .. إلخ . وكذا : استمرار بعض الألعاب مثل : النحلة والباط والتحطيب وتريك تراك والسيجة، ومن هذه الألعاب ما ذكره المسيري في التأريخ للتراث الثقافي للإقليم في كتاب " رحلتي الفكرية ".

.. وبعد :

فكون دمنهور استمرت فيها الحياة بدون انقطاع، ولم تدفنها الرمال، يومئ بعبقرية هذا المكان – باستخدام تعبير جمال حمدان – لاستمرار الثقافة (Culture ) فيه المتمثلة في الإنسان . وهو الأمر الذي يحاول هذا البحث تلمسه، وإلقاء الضوء عليه؛ بغية الاستخدام الأمثل للموارد البشرية المتوفرة في هذا الإقليم بمواصفات ثقافية خاصة مغروسة فيهم ، وموروثة منذ القدم . ولسنا نزعم القداسة لمدينة دمنهور بانتساب الكائن الإلهي " حورس " أو" هرمس الحكيم " أو" النبي إدريس " لها؛ وإن كان بعض الغربيين يزعمون لها هذه القداسة – كما سيتبين في مقالات قادمة - فما كان هذا منهج المسيري الذي نجوب في رحابه ونحلق في سمائه ولكن نذكر الحقائق في محاولة لتلمس الحقيقة . ولن نتجاوز طريقة فهم المسيري المنصفة للتاريخ .

وكما يقول الدكتور محمد عمارة : كل الناس يرددون : " مصر أم الدنيا " .. لكن يبدو من حقائق هذه الدراسة [15] .. " أن مصر هي أم الدنيا والدين أيضا " ..

فعلى هذا لوثبت بالمنطق العلمي عن طريق التتبع التاريخي في رؤية استقرائية كون مصر هي موطن " سيدنا إدريس " أول رسل السماء والملقب بـ " هرمس الحكيم " مؤسس الحضارة الإنسانية بإجماع الإنسانية ، وكون إقليم البحيرة هو موطنه ، وكون هذا الإقليم لم ينقطع فيه التاريخ ولم تنقطع فيه الحياة منذ بدء الخليقة إلى الآن ؛ فإننا بهذا المنطق نتكلم عن ( منطقة انطلاقة الإنسانية العاقلة ومهد التوحيد في العالم ) .

كامل رحومة في 17 إبريل 2011 م .

( الحلقة القادمة : أثر دمنهور على المشروع الفكري والإنتاج المعرفي للمسيري )



[1] عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، ص21 .

[2] حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، تحرير سوزان حرفي، ج1، ص79 .

[3] رحلتي الفكرية، ص22.

[4] أنظر : علي جمعة، وآخرون، بناء المفاهيم، دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، ج1.

[5] ناصر الأنصاري، المجمل في تاريخ مصر، ص16. وكذا:علاء عبد العزيز، تاريخ مصر القديم، ص 36. وكذا:محمد محمود زيتون،إقليم البحيرة،ص277،وما بعدها.

[6] علي فهيم خشيم، آلهة مصر، ج1، ص38 .

[7] المرجع السابق، ص233، وكذا مختصر موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، إعداد عريان لبيب حنا، ج1، ص147.

[8] سيد كريم، لغز الحضارة المصرية، ص300.

[9] موسوعة وصف مصر، ج 24، ص136.

[10] مصطفي النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، ص38.

[11] علاء الدين عبد المتعال، هرمس مثلث الحكمة بين الأسطورة والواقع، ص 10.

[12] دوجلاس بريور، و إيملي تيتر، مصر والمصريون، ترجمة عاطف معتمد ومحمد رزق، ص287 – 290.

[13] موسوعة وصف مصر، ج 24، ص130 – 136.

[14] يرجع في ذلك : لكتاب حضارة مصر القديمة وآثارها، ج1، لعبد العزيز صالح، وكتاب الأولة مصر، لإيهاب قاسم، وكتاب نزول النقطة لجمال الغيطاني.

[15] يقصد دراسة بعنوان أنبياء مصر عبر التاريخ، بمجلة منبر الإسلام، السنة 69، العدد 6، مايو– يونيو2010، وقد ذكر فيها كون سيدنا إدريس هو رائد الحضارة ومعلم الإنسانية الأول .

١٣ يناير ٢٠١٢

المقال الأول من سباعية أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية


العبقرية الفكرية للأمكنة – إقليم البحيرة نموذجا :

" أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

الحلقة الأولى : المقدمة :

لقد بات مؤكدا لدى كل من انتمى لعبد الوهاب المسيري سواء بالصحبة أو بالمعايشة أو حتى بالفكر؛ بالإدراك لحقيقة قطعية لا مجال لردها، تواترت بها كتاباته، و تأثر بها خطابه التحليلي، و هتف بها قولا، و تواصل معها عملا؛ ألا و هي حقيقة ارتباطه الوثيق بإقليم البحيرة عامة و بمدينة دمنهور خاصة .

حيث يقول : " كلما تعمقت في رؤيتي، و في حياتي أدركت مدى أثر دمنهور عليَّ و على نشأتي فيها؛ حيث أن الثلث الأول من رحلتي الفكرية هو حديث عن أثر دمنهور عليَّ، و لذلك في جميع كتبي أنهيها : دمنهور – القاهرة " [1] .

و هذا الملمح في شخصيته الفكرية - من حيث ارتباطه ببذوره في دمنهور - تناولته أقلام و أقلام؛ و ذلك لصعوبة تجاوز هذا الملمح فيه، و منهم على سبيل المثال لا الحصر :

المفكر الفلسطيني المقيم في لندن الدكتور إبراهيم درويش في بحث كامل عن بذور و جذور المسيري، و قد أفرد فيه مساحة تحليلية و بحثية ليست بالصغيرة عن مدينة دمنهور من زاويا علم " الميثولوجيا[2] " [3]. و كذا المستشار الإعلامي لمكتبة الإسكندرية الدكتور : خالد عزب في معالجته لدمنهور من زاويا التاريخ و العمارة؛ راصدا أثر المدينة في شخصية المسيري، و تكوينه الثقافي، و كذا اعتزاز أبناء المدينة بماضيها، و كذا التحولات في المنظومة الفكرية للمدينة بخفوت الوهج الثقافي لها حاليا [4]. و الكاتب و الروائي الكبير الأستاذ : خيري شلبي في رائعته عن المسيري المسماة : ( الهدهد، صورة شخصية )، معالجا الأثر الثقافي للإقليم على شخصية المسيري، و خاصة قهوة الأديب الكبير الأستاذ عبد المعطي المسيري[5]. و الناقد السينمائي أسامة القفاش في مقالته النقدية عن المسيري[6]. و أستاذ الفلسفة الحديثة و المعاصرة بجامعة القاهرة الدكتور : أحمد عبد الحليم عطية في بحثه المتخصص ( الأنت و الأنتي مودرنزم )؛ حيث يقول : " يواجهك المسيري بترسانة مفاهيمية هائلة متنوعة المصادر مستمدة من تيارات و مذاهب اجتماعية، فلسفية متعددة، و قد تكون متعارضة، أعيد تشكيلها لتتلاءم و المتلقي الذي يتعامل معها و قد وضعت عليها ( ماركة ) : صنع في ( دمنهور ) " [7]. و الكاتب و الناقد المغربي الأستاذ : محمد همام و هو يقارن بين سيرته و سيرة عبد الرحمن بدوي الذاتية، عن طريق خطاب يوسف القعيد الفكري لها [8]. و الإعلامية سوزان حرفي في مقدمتها لكتاب حوارات، حيث تسميه : " ابن دمنهور" [9]، كما أنها استفاضت معه في الأسئلة المتنوعة عن علاقته بالمدينة داخل الجزء الأول، و هو استفاض معها في الحديث عن المدينة و ما جاورها كلما سنحت الفرصة، و ذلك في كل أجزاء الكتاب . و الإعلامية المخرجة لمياء جودة في تتر النهاية للفيلم التسجيلي ( ديوان المديرية ) و الذي يؤرخ لرحلته الفكرية؛ حيث كتبت بالحرف : " توفى الدكتور عبد الوهاب المسيري في فجر يوم الخميس الثالث من شهر يوليو عام 2008 م ، و دفن في مقابر الأسرة في " دمنهور المدينة التي عشقها و كانت دائما في عقله و قلبه " " .

و قد لا أبلغ حدا من حدود غير المعقول، و لن تدركني المبالغة في التسليم بتأثير الإقليم على كل مشروعه الفكري، بل وصل به الأمر إلى جعله أحد أهم مسببات نماذجه الإدراكية كما سيتضح في هذه الدراسة .

و قد كان أكبر تصريح له بهذه الحقيقة هو عنوان كتابه العظيم الذي يحمل سيرته و مسيرته الفكرية الموسوم بـ " رحلتي الفكرية، في البذور و الجذور و الثمر "، و هو يعتبرها سيرة غير ذاتية غير موضوعية؛ و بشرح العنوان يبرز المقصود[10].

فهو يقصد بـ .. رحلتي الفكرية : أنه لا يتكلم عن رحلته من منظور اجتماعي اختزالا لكونه ابن أو أب أو حتى زوج، إنما يقرر الخوض فيها كمثقف عربي إسلامي، لا يتعامل معها إلا بمقدار تأثيرها في أفكاره . و يقصد بـ .. البذور : بذور تكوينه الفكري في إقليم البحيرة - و خاصة - مدينة دمنهور . و يقصد بـ .. الجذور : حياته الثقافية بأسرها . و يقصد بـ .. الثمر : أفكاره الأساسية أو إنتاجه الفكري من المؤلفات و المشاريع و الإبداعات، أو هي على المستوى الفلسفي ما يسمى ببنية النموذج .

فهو بالتالي يتعامل مع الإقليم عامة، و دمنهور خاصة على أنها أفكار لا أحداث، و لا يعتبرها مجرد مدينة عادية يتواصل معها من باب الصلة و البر و فقط؛ بل يعتبرها مدينة خاصة يتواصل معها من باب الفكر و العلم، و حديثه الدائم المستمر عنها من حيث تأثيرها الفكري عليه و على غيره؛ مما يدعونا لمعالجة علاقته بها بإلقاء الضوء عليها من زاوية الفكر؛ متجاوزين بذلك الأحداث و الأشخاص؛ برغم استئناسنا بذكرهما، لغرض الشرح و التحليل .

و قد كانت آخر زياراته ( يرحمه الله ) لدمنهور في 15 مارس 2008 م - أي قبل وفاته بأشهر قليلة – برفقة فريق عمل من قناة النيل للأخبار؛ لعمل فيلم تسجيلي عنه أذيع بعد موته، للمخرجة لمياء جودة . و من ضمن فقرات الفيلم صالون ثقافي؛ كانت قد جرت العادة أن يعقد في منزل ابن عمه الأستاذ عبد الله المسيري . و على هامش التصوير تحدث أحد مريديه و هو الناشط على الشبكة العنكبوتية المعروف " محمد حميدة " عن ظاهرة الإبداع الواضحة لأبناء إقليم البحيرة قديما و حديثا، و توجهت بدوري بسؤال مشمول ببعض المعلومات الإحصائية عن أعداد غفيرة من العلماء و المبدعين من أبناء الإقليم؛ كلهم يتسمون بنزعة التجديد، و كان السؤال هل من الممكن صياغة هذه المعلومات الهائلة داخل نموذج تفسيري للخريطة الإدراكية لأبناء تلك البلدة ؟ . فكأنما وجد ضالته، و طلب مني صياغة هذا في بحث أو مؤلف، و لما بدأ التصوير طلب من المخرجة إعادة السؤال لأنه جدير بالتسجيل؛ فهو يخص شيئا حبيبا لنفسه .

و ما يزال أحباؤه يطالبونني بذلك بعد موته - و مثل الدكتور عبد الوهاب لا يموت و إن كان تحت التراب - و لذا فقد جددت نيتي و عقدت عزمي على إتمام ذلك الأمر الآن؛ بأن أتتبع بذور رحلته الفكرية، و التي يقصد بها بذور تكوينه الأولى في " دمنهور " .

و لسوف نكتشف جميعا معا أمرا عجبا، منطوق هذا العجب يفوح بكون " دمنهور " ليست بذور رحلة المسيري الفكرية .. فقط .. و لكنها بذور الحضارة لكل العالمين .. !! .

و هذا الأمر الذي ظاهره فيه من المبالغة و كذا التعصب؛ لهو في باطنه الكثير من الموضوعية و الحياد؛ لكوني ألزمت قلمي في هذه السلسلة بالسير في طريق البحث العلمي؛ الذي سوف ألتزم به طول حلقاتها أيا ما بلغت ( و إن كنت أريدها سباعية تقليدا للفيلسوف الكبير يوسف زيدان في سباعياته الشهيرة ) .

و حقيقة كون " دمنهور " لها مثل هذه المكانة أمر ليس بغريب على مدينة تعد من أقدم مدن العالم – إن لم تكن أقدمها – و استمرت فيها الحياة بدون انقطاع منذ بدء الخليقة و حتى الآن . و لسوف نكتشف بأدوات البحث العلمي كونها مدينة ثالث الأنبياء بعد سيدنا " آدم " و سيدنا " شيث " عليهما السلام و أول رسل السماء سيدنا " إدريس " عليه السلام . و أن الإشعاع الحضاري فيها لم يخفت وهجه عبر التاريخ الإنساني كله .

و لعلي بهذا الجهد المتواضع أن أكون من المرابطين على ثغور مشروع الدكتور " عبد الوهاب المسيري " الفكري ، الذي هو و لا شك للمستقبل ؛ فاللهم تقبل .

كامل رحومة – في 9 ابريل 2011 م .

( الحلقة القادمة بعنوان : " عبق التاريخ في مدينة المسيري " )


[1] ديوان المديرية، فيلم تسجيلي عن رحلة المسيري الفكرية، للمخرجة لمياء جودة، إنتاج قناة النيل للأخبار .

[2] أي الأسطورة .

[3] في عالم عبد الوهاب المسيري، حوار نقدي حضاري، ج 2، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 2004 م، ص 229 .

[4] المرجع السابق، ص 366، و كذا مجلة العربي الكويتية، العدد 618، مايو 2010، ص 36.

[5] المرجع السابق، ص 390 .

[6] المرجع السابق، ص 377 .

[7] عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه و نقاده، سلسلة علماء مكرمون، دار الفكر، دمشق، ط 1، 2007 م، ص 237 .

[8] المرجع السابق، ص 675 .

[9] حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، تحرير سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط 1، 2009 م، ج 1، ص 12 .

[10] يرجع في شرح العنوان لكتاب رحلتي الفكرية، دار الشروق، القاهرة، ط 3، 2008 م، ص 11 – 16 .

حس الفكاهة عند المصريين - ثورة 25 يناير نموذجا


حس الفكاهة عند المصريين ..

" ثورة 25 يناير نموذجا "

للباحث / كامل مصطفى رحومة

دبلوم الدراسات العليا بجامعة مكة المكرمة المفتوحة

الإهداء :

إلى مفجر ثورة الضاحكين ..أيان كانوا صامتين ..

إلى عاشق الإنسان ..أيا من كان ..

إلى الضاحك.. الدكتور عبد الوهاب المسيري .. يرحمه الله ..

فيا ليته كان معي ..و يا ليتني في غيابه ..كنت معي ..

مقدمة :

لقد بات من مسلمات العلوم الاجتماعية ؛ الإقرار بمعيارية الفكاهة في التدليل على درجة تحضر الشعوب ، و أمست النكتة أحد أهم أدوات قياس اتجاهات الرأي العام لأمة ما .

و لما كانت النكتة أحد أهم التقنيات الشعبية التي استخدمها المصريون في " ثورة 25 يناير " ؛ كان لزاما على متقصي الحقائق إلقاء الضوء على الفكاهة و النكتة ؛ بغية الوصول للحقيقة .. في محاولة الحصول على مقولة تفسيرية تعبر عما حدث قبل و أثناء و بعد الثورة.. لأن النكتة هي أحد أهم الوسائل التي تنبئ عن الخريطة الإدراكية لشعب ما ( أو بمعنى أبسط : الثقافة الشعبية الداخلية له ) .. فبالتالي تستطيع النكتة أن تكون أداة للتغير .. بل و تستطيع أن تتنبأ بالمستقبل .

و لأن الفكر الغربي - من الزاوية السياسية الجماهيرية - يقدر الفكاهة و يحترم من يقوم بها ، و يعتبره متحضرا . و يقر بحقيقة كون ضعف الحاسة الفكاهية و عدم تقدير النكتة .. أحد أهم أسباب ضعف النزعة النقدية للأفراد و الجماعات ، و أحد أهم مسببات الاكتئاب و الضيق و اليأس الشديد .. مما يفسر لدينا ظاهرة قلة النكتة قبل الثورة ..ثم يفسر كثرتها بعدها و أثناءها .

فرجوع حس الفكاهة للمصريين عبر ميدان التحرير .. يعني عندهم – الغرب - ميلاد الأمل في الحياة للمصريين . و هذا مما يفسر أقوال كثير من الزعماء و الكتاب و الفلاسفة الغربيين عن المصريين بعد الثورة ( مثل قولة برلسكوني على سبيل المثال : لا شيء جديد في مصر .. فالمصريون كالعادة .. يصنعون التاريخ ..) .

.. و عليه فإن : ( الضاحكون المضحكون في مصر .. صنعوا التاريخ ) ..

أولا : الضحك و الفكاهة في العلوم الإنسانية :

· يقول الفلاسفة أن : " الإنسان حيوان ضاحك .."

· و تعريف الضحك للفيلسوف الكبير " برجسون " : .. " الضحك ملكة إنسانية ، فلا يضحك إلا ما هو إنسان ، و ما من شئ يضحكنا إلا ما يكون إنسانيا .. "

· و الفيلسوف الفرنسي فولتير يقول : " أنا أضحك حتى لا أصاب بالجنون.. "

· مارسيل بانيول يقول : " قل لي مما تضحك .. أقل لك من أنت .. " .

· و كما يقول مودي راشد أن : " الضحك تأكيد لإنسانية الإنسان .. لأنها طريقة لحفظ ماء الوجه للتعبير عن القلق الذي يعترينا ، فهو يكسر الجليد ..و يبني الثقة ..و يجمعنا في حالة مشتركة من السعادة ".

· و العقاد يؤكد على أنه : " لا توجد أمة متحضرة لها تاريخ قديم خلت من نوابغ الفكاهة .." .

· و القرضاوي في كتابه " فقه اللهو و الترويح " يتبني قولة : " أنا أضحك إذن أنا إنسان " .

· و صبحي درويش يرى أن : " الفكاهة فضيلة إنسانية عالية ".

.. و عليه فإنه : ( كلما زادت إنسانية الإنسان .. كان ضاحكا و فكاهيا ) ..

ثانيا : حقائق عن الضحك و الفكاهة :

o أسباب الضحك :

السرور .. الفرح .. السخرية .. المزاح .. العجب .. العطف و المودة .. الشماتة و العداوة .. المفاجأة .. الدهشة .. البلاهة و السذاجة .

o مشاهير الظرفاء و الضاحكين :

جحا .. أبو علقمة .. أبو دلامة .. أبو الشمقمق .. أشعب .. بهلول ..

o الكتاب الساخرين :

الشاعر " الفرذدق " .. و غريمه الشاعر " جرير " .. و الإمام ابن الجوزي ( صاحب كتاب " أخبار الحمقى و المغفلين " ) .. و ابن الرومي ( شاعر الهجاء و السخرية ) .. و الجاحظ ( مؤلف كتاب البخلاء ) ..و أبو حيان التوحيدي ( الفيلسوف ) .. و الشيخ عبد العزيز البشري ( جاحظ العصر الحديث و ابن شيخ الأزهر " سليم البشري " )..و كامل الشناوي ( الصحفي و الشاعر الكبير ) .. و بلال فضل .. و جلال عامر .. و عمر طاهر .. الخ .

o أشهر الكتب عن فلسفة الفكاهة :

" جحا الضاحك المضحك " لعباس محمود العقاد .. و " فلسفة الضحك " للفيلسوف برجسون ( و هو أحد أهم الكتب المعتمدة في ذلك ).. و " النكتة السياسية " لعادل حمودة .. و " السخرية السياسية العربية " لخالد القشطيني .. و البحث العلمي الرشيد" الفكاهة و الضحك " لشاكر عبد الحميد ( سلسلة عالم المعرفة ) .. و " نكت السيد الرئيس " لمحمد الباز .. و" و الكبار أيضا يضحكون " لأنيس منصور .. و غيرهم .

o فوائد النكتة و الفكاهة :

1) تعزيز التماسك الاجتماعي بين الأفراد .

2) التفاعل و التواصل مع الناس .

3) فهم مطالب الآخرين و التقرب إليهم و كسبهم في العمل العام .

4) التحكم في سلوك الآخرين بالسخرية .

5) تنشيط العقل و الإبداع و الخيال .

6) نقل المعلومة بيسر و سهولة.

7) مقاومة الاكتئاب و القلق و الغضب و الانطواء و الفردية و إزالة الخوف.

8) كشف العيوب و تعديل القرارات الخاطئة و تحسين الظروف .

9) تنمي روح الفريق .. لكون المزاح لا يكون إلا جماعيا ..

فكما يقول عادل حمودة أن : " حزب النكتة هو الحزب الوحيد الذي تتلاشى عنده كل النزاعات و العصبيات .. حتى عصبية كرة القدم ( أهلي و زمالك ) ..

مما يفسر لدينا كون أن بعض الصعايدة يقبلون النكت التي تطلق عليهم ، طالما كانت تثير الضحك و تدخل البهجة و السرور .. و هو ما يطلق عليه في الثقافة الشعبية ( تشجيع اللعبة الحلوة ) .

.. و عليه فإن : ( الفكاهة هي العدو اللدود للتعصب .. و هي أحد روافد العمل الجماعي )

o تعريف النكتة :

- هي نشاط لفظي شفهي إرادي يقصد من ورائه إحداث لأثر سار لدى المتلقي له .

- و هي كما يقول أ. د . سيد عويس : " عبارة عن استحضار تجارب سابقة للمشهد الحالي و تطبيقها عليه بصورة تصنع مشهدا هزليا " .

o سمات النكتة :

1) هي نص إبداعي سردي .

2) النكتة صناعة لا صانع لها ( مصانعها سرية .. في المقاهي و المنتديات و غرف التواصل الاجتماعي ).. فهي مشاعية و ليس لها مؤلف .

3) و هي ملخص فكرة مكثفة إلى أقصى حدود التكثيف .

4) انتقاديه و لا تعترف غالبا بالمقدسات ( الدين .. السياسة .. الجنس ) .. أي تقول ما لا يقال .

5) تقوم عل الطرفة و المفاجأة و المفارقة بكل أنواعها.

6) تحتاج للرشاقة الذهنية .. فهي تعتمد على المتلقي كما تعتمد على المؤدي لها .. فمن الممكن ألا يفهمها فلن يضحك .. ( أي لها استقبال كما لها إرسال ) .

7) النكتة الأكثر عدوانية .. هي الأكثر طرافة .. ( سواء في النص أو في الفكرة ) .

8) هناك نكت ايجابية و أخرى سلبية .. كما يقول الخبير الإستراتيجي " طلعت مسلم " .

o حقائق اجتماعية عن الأشخاص المتفكهين و الظرفاء :

1) ينتج الذكور الفكاهة أكثر من الإناث .

2) تستمتع الإناث بالفكاهة أكثر من الذكور .

3) سن المراهقة ذروة الميل للضحك و الفكاهة .

4) المتفكهون غالبا أحرار ، و على علاقة جيدة بذويهم .

5) العلاقة بين الذكاء و الفكاهة قوية .

6) المتفكهون أكثر إبداعا من غيرهم . و النكتة قرينة الإبداع .. و الشخصيات الفكهة .. غالبا ما تكون مبدعة .

7) المتفكهون لهم سمات قيادية ، و ينصح بترشيحهم للمناصب الهامة .. لذا فهم صناع الثورة .

8) المتفكهون يتسمون بالاتزان الوجداني الانفعالي أكثر من غيرهم .

9) يوجد لدى المتفكهون صورا أكثر إيجابية عن ذواتهم .

10) و هم أقل قلقا و أقل شعورا بعدم الأمان .. و هذا ما يفسر ظهور الوجه المشرق للمصريين في ميدان التحرير .

o دور النكتة في الصحة النفسية :

1) يقاس بها مدى صحة مراكز الحكم المنطقي في أدمغة البشر .

2) تعطي الإنسان إحساس بالانتصار على الموقف فتعطي الثقة بالنفس .

3) تنمي ملكة الإبداع و ترفع الروح المعنوية .

4) تعمل على حدوث حالة من التطهير الجماعي للانفعالات السلبية المتراكمة بفعل أحداث الحياة السياسية و الاقتصادية السيئة .

5) تقرر الدراسات الأكاديمية الحديثة : أثر الفكاهة في زيادة كفاءة أجهزة المناعة ، و أنها تشحذ القدرة على مقاومة الأمراض العضوية .

6) تقوي الذاكرة و ترفع قدرة الاحتفاظ بالمعلومة .

7) تساعد على علاج الاكتئاب و القلق و الضغط العصبي .

8) تجعل الشخص أكثر وسامة و جمالا.

رابعا : السخرية في مصر :

1) أقوال جامعة في وصف الفكاهة عند المصريين :

· يقول هيرودوت ( 200 ق . م ) : " المصريين شعب ماكر لاذع القول روحه مرحة ".

· و يقول جوستاف لوبون : " إن الظرف و الملح و التلطف من أبرز خصال المصريين القدماء " .

· و د . نعمات فؤاد تقرر أن : " الشعب المصري يضحك و يتفكه فيحسبه الجاهل به سهلا و هو صعب " .

· و كما يقول الشاعر عن المصري : و لأن هزلك في الحقيقة حكمة ** * تخفى فيحسبها الهراء الجاهل ..

· و ابن خلدون يقول عن المصريين في مقدمته : " كأنهم فرغوا من الحساب " .. أي أنهم تجاوزوا كل ما هو جاد .. إلى كل ما هو هزل .

· و أحمد أمين في كتاب قاموس العادات و التقاليد : " الشعب المصري ابن نكتة .. و محبوب في أقرانه " .

· و صبحي درويش يعتبر الفكاهة من تجليات ثقافة السلام عند المصريين .. مما يفسر تأكيدهم سلمية ثورة 25 يناير باستخدام الفكاهة .. فالذي يضحك و يسخر .. لن يقتل و لن يستخدم العنف .. إنه شخص متحضر .

.. و عليه فإن : ( المصري الناقد الساخر .. و الفكاهي .. و الضاحك .. لا يميل للعنف )

2) ركائز الحس الفكاهي عند المصري ( أو بمعنى : صفات الشعب المصري التي تؤهله للفكاهة ) :

· الذكاء و سرعة البديهة .. و هي أحد أهم أدوات النكتة .

· ساخر و فيلسوف .. حتى في السخرية الاجتماعية .

· من أدوات حس الانتقام عنده : السخرية .

3) الأشكال المختلفة للنكتة في مصر :

الكاريكاتير .. و الفوازير ..و الألغاز و الأحاجي .. و الأمثال الشعبية مثل : " الجنازة حارة و الميت كلب " .. و القصص الفكاهية أو الحواديت .. و خيال الظل .. و لعبة الأراجوز .. و لعبة دخول القافية .. و الأدب الساخر كالمجلات الأدبية المتخصصة مثل " البعكوكة " .. فن المونولوج الغنائي .. فن شعبي آخر هو تحوير الأغاني الشهيرة إلى معاني ضاحكة باستخدام نفس اللحن و تغيير الكلمات .. المسرح الضاحك .. السينما الضاحكة .. و شكل جديد هو " الإفيه " القولي أو المصطلح الجديد مثل : " كوسة " و " همبكة " و خاصة الإفيه الإليكتروني منه في غرفات الشات و المنتديات.. و نوع أخر هو رسائل الــsms أو ما يسمى بـــ " النكتة الإليكترونية "..

4) البانوراما التاريخية للفكاهة السياسية في مصر :

· رسوم المصريين القدماء للهكسوس على هيئة فئران تخضع لهم القطط .. كرمز على صيرورة المصري ذليلا للأجنبي .

· في عهد صلاح الدين ألفت مؤلفات للسخرية من حكم الوزير " قراقوش " .. مثل كتاب : " الفاشوش عن حكم قراقوش " .

· الجبرتي في تاريخه يحكي عن مؤامرات " نابليون " لإيقاف " الأضاحيك " ( أو النكت ) لأنها تهدد سلطانه .. و يحكي استخدامه الفتاوى الدينية المتشددة لتحريمها .

· جمال عبد الناصر كان له تقرير أسبوعي يقدم له من وزارة الإرشاد و كذا المخابرات عن النكت.. و كان اسمه الحركي في النكت " عبد الجبار " .. و قد أزعجته نكتة الطبيب الذي نصحه برياضة " المشي " .. قائلا له : " ما تمشي بقى .. " .. و كذا ما قاله " أنيس منصور في كتابه " و الكبار أيضا يضحكون " عن نكتة " إسماعيل ياسين " عليه ، و التي أثارت أزمة بين عبد الناصر و أنيس منصور – و قيل في موضع آخر عبد الحميد جودة السحار - .. و التي تقول : " واحد متعود كل يوم يقرأ الجرنال .. و بعدين يرميه في الأرض و يدوس عليه .. فسأله صاحبه عن سبب ذلك .. فرد عليه : أنا بأقرأ الوفيات .. فسأله : بس أنت قرأت الصفحة الأولى و لم تقرأ صفحة الوفيات .. فرد عليه : ما اللي أنا مستني موته خبره بيطلع في الصفحة الأولى ..

· جمال عبد الناصر : في خطبة مشهورة له .. ناشد الشعب المصري : " أن يتقي الله في نفسه ، و أن يرشد النكتة بما لا يؤذي الشعور الوطني " .

· يقول عادل حمودة : أن الوزير " حسن أبو باشا " كان يجمع النكت للرئيس السادات ، و يعرضها عليه كل صباح .. و يحكى أنه كان يأخذ قرارات على أساس تقديره لخطورة بعض النكات ، و قد ذكر منها أمثلة عديدة .. و قد أزعجته بعض النكت مثل نكتة : " يا موحد الأديان يا ريس " .

· تجاهل مبارك للنكتة و لفكاهة الشباب على الإنترنت في الفترة الأخيرة.. بل و التهكم عليها بفقه : ( خليهم يتسلوا ) .. أدى إلى ما هو حادث .. فهو كان لا يقرأ التقارير ، و كانت تروى له النكتة التي يظنون أنها تمتعه فقط .. فلما استخدم السخرية منهم تهكما.. استخدموها و هم بها أجدر .. لأن أصحاب البيت لا يعنيهم سخرية الحرامي حين يتهكم عليهم .. و الظن أن هذه الكلمة .. قد هوت بعرشه و سلطانه .. سبعين خريفا .. و هو لا يلقي لها بالا .

5) المقاومة بالنكتة في مصر :

· يقول د . جابر قميحة : " النكتة أقوى أسلحة أدب السخرية . و خطورتها ترجع إلى العفوية ، و غالبا ما تكون ملمح من ملامح الشخصية التي تتناول النكتة ، و الإيجاز أهم عوامل خطورة النكتة . .

· و تقول عائشة سلطان : " النكتة مقاومة بالحيلة " .. و أنها سيدة الموقف في التظاهرات و الاحتجاجات و الغضب و ردات الفعل العربية طول التاريخ الحديث .

· و يقول إبراهيم أصلان : " النكتة السياسية متحدث رسمي حر للمعارضة الشعبية في مصر " .

· يقول " عصام الإسلامبولي عنها : " أنها صندوق اقتراع على الحاكم " .

· د . سيد عويس ( كبير علماء الاجتماع العرب ) يقرر أن : " النكتة هتاف الصامتين " .. و أنها " نزعة المقهور " ..و يقرر أن : " نصف الشعب يحارب و النصف الآخر في حالة إبداع " .

· و عادل حمودة في كتابه النكتة السياسية يقول : " الألم إذا زاد عن الحد .. انقلب هزلا " .. و التراجيديا إذا تجاوزت الحجم .. انقلبت كوميديا .

· و الإعلامي حسين عبد الغني يقول أن : " النكتة إعلام و تعبير عن الرأي العام .. فهي ترمومتر لحالة الشعوب ".

· و د . سالم ساري يقرر حقيقة أن : " النكتة تقنية شعبية " .. فهي سلاح بيد الشعوب المقهورة .. و محاولة لقهر القهر .

· و الصحفي و الشاعر الكبير كامل الشناوي يقول : " كانت النكتة السلاح السري الهدام الذي خرق قصور الحكام ، و اقتحم حصون الطغاة ، فأقلق راحتهم و ملأ قلوبهم رعبا ".

· و الكاتب الساخر " إبراهيم عبده " يقول : " النكت و السخرية أشد عنفا من طلقات الرصاص " .

· و من أمثلة النكت التي أقلقت الطاغية .. نكتة الطبيب الذي يعالج الرئيس من الصداع .. و كان تشخيصه أنها حالة إسهال في العقل .. فلما سئل الطبيب عن تفسير ذلك .. قال : " أصل أفكاره قذرة ".

6) قوة النكت في الإقناع للرأي الجمعي ( ثورة 25 يناير نموذجا ) :

للفكاهة قوة إقناع و تأثير في العقل الجمعي تفوق كل الخطابات الموجهة الأخرى .. و قد ظهر هذا جليا في الخطاب الثوري لميدان التحرير .. الذي غلبت عليه الرشاقة الذهنية للمصريين .. و استحق الشعب المصري عنها حوز درجة " شعب عبقري " بجدارة و استحقاق .. و مثالا على ذلك :

* المعالجة الفكاهية لأكذوبة " الكنتاكي " و التي أطلقها أعوان النظام السابق ، و كيف استطاعت النكتة و الفكاهة الانتصار للثورة و للثوار .

* و أيضا معالجة أكذوبة " الأجندة " التي أطلقها " عمر سليمان " .. و من أمثلة ذلك ما قيل : " يا عمر سليمان .. أنا بطلت الأجندة .. و جبت كشكول سلك .. و أيضا : " يا عمر يا سليمان .. أجندتك حمرا " .. فكثير من المصريين لا يعي ما معنى " الأجندة ".. و لكنهم جميعا قد فهموها حين تحولت لسخرية .

* و كذا المعالجة الكوميدية لحقيقة " الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان " .. و منها : " الوقفات في مصر : وقفة عيد الفطر – و وقفة عيد الأضحى - و وقفة الراجل اللي ورا عمر سليمان " .. و منها أيضا : " عمر سليمان يغير اسمه إلى الراجل اللي واقف قدام الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان " .. و منها : " أنباء غير مؤكدة تشير إلى : جلوس الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان " ..و فلسفة نقد الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان تقوم على نقد فكرة أن الثورة ليست ثورة .. و لكنها انقلاب عسكري .. لأن وقوف الرجل يعني أنه يجبر " عمر سليمان على الخطاب " .. و الرفض الفكاهي لما حدث أرجعها إلى وصف ثورة .. عن طريق السخرية عديدة الطلقات و المركزة على فكرة الانقلاب .

* المعالجة الفكاهية في نقد أعقد الأفكار الفلسفية .. و هي فكرة " العقد الاجتماعي " بين الحاكم و الرعية .. مثل النكتة التي اعترضت على قول عمر سليمان بأن الرئيس مبارك زي أبونا .. فعلق شباب التحرير في خطابهم الفكاهي قائلين : " على كدة إحنا طلعنا ولاد حرام " .. فلقد انتقدوا بهذه النكتة " سلطة الطغيان الأبوي " المعروفة في علم فلسفة السياسة .. مقررين كون الحاكم اغتصب أمهم .. أو زواجه بمصر زواجا غير شرعيا.. فهم ولاد حرام .

* المعالجة الكوميدية السوداء من الشباب المصري لأزمة " ليبيا " .. و اعتراف الليبيين الثوار بقوة المقاومة الفكاهية المصرية في مساندة الثورة الليبية .. مثل شعارات : " الشعب يريد تفسير الخطاب ".. و" الشعب يريد إيقاف الخطاب ".. و " الشعب يريد علاج الرئيس " .. و كذا لافتة تقول أن : " القذافي الذي أرهق كل مترجمي القنوات الأجنبية في خطاباته ".

* إبداع سكان ميدان التحرير لمقابلات رمزية و مجازية أدبية جديدة و متنوعة و بعضها شعبي لتناسب كل الفهوم لتوصيل الفكرة بالنكتة مستخدمين الرمز .. و المجاز .. و الاستعارات و الكنايات بأنواعها و منها التمثيلية .. لتكون النكتة هي أداة التواصل مع كل طوائف و طبقات الشعب .. و من أمثلة ذلك :

o لافتة بعنوان : " جيم أوفر ( game over ) ".. يفهمها كل مهتم بألعاب الأتاري و الفيديو جيم .

o لافتة عبارة عن حكم كرة قدم يخرج للرئيس " كارت أحمر " .. يفهمها كل مهتم بالرياضة .

o لافتة بعنوان : " راسب و ليس للمذكور إعادة " .. يفهمها كل مهتم بالعلم و التعليم .

o و الاختراع العبقري : " حفل الزار الثوري " لصرف الرئيس الملتصق – حسب تعبير تقرير الــــ " بي بي سي " .. و من ذلك لافتة : " دة لو عفريت كان طلع " .. و لافتة : " انصرف .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .. و هو أمر يتفهمه كل ريفي و كل صاحب ثقافة شعبية .. بل كل ربة بيت بسيطة .

o لافتة بعنوان : " رابطة نجاري مصر يسألون الأسطى مبارك .. ما نوع الغراء الذي تستعمله " .. كناية عن تمسكه بكرسي الحكم .. و يفهمها كل مهتم بالحرف و الصناعات الصغيرة .

o لافته : " باي يا مبارك .. موبيلات بقى " .. و يفهمها كل فتى و فتاة كاجوال ( سيس ) .. أو كل متابع للأفلام الكوميديا .

o لافتة : " مبارك يريد تغيير الشعب " .. يفهمهما كل ذي منطق و لب .. على كونها متناقضة مع المنطق و العدل .. فهو واحد ضد 80 مليون .

o لافتة : " أونكل حسني عاوزة أغير قناة الجزيرة و أجيب قناة كارتون .. ما تمشي بأة " – امضاء : طفل مصرية .. يفهمها كل طفل و كل أب و أم ..و دليل على أنه ضد كل الشعب .. حتى الطفولة البريئة .

o للبيع .. رئيس سابق .. استعمال 30 سنة .. أو للبدل بخلاط .. الوسطاء .. ما فيش مشكلة بس نخلص .. يتفهمها كل من له سابقة بيع و شراء لأصل ثابت .

o لافتة " الشعب + حرية - واحد = حياة مستقرة .. يتفهمها من له اهتمام بالرياضيات و المنطقيات.

o النكتة التي قالها الرئيس المخلوع لحبيب العادلي : " منعت الحشيش .. و الشعب صحصح علينا يا فالح " .

خامسا : النكتة عند المسيري :

و لأن المسيري مفكرا من العيار الثقيل ، و لأنه لا يجهل قيمة النكتة في تحليل المقولات الاجتماعية و السياسية .. فهو يستخدم النكتة للشرح .. و يقول في رحلته الفكرية : " إن حب النكتة مسألة مرتبطة بصميم الإنسان المصري ، قلبه ينفتح إن اكتشف أن من أمامه قادرا على إطلاق النكتة " .

و المسيري يقول عن النكتة : " هي جزء من الشخصية المصرية .. و أن النكتة ليست للتنفيس و إنما للتفسير ، و هي محاولة للتعامل مع الواقع ، و محاولة للاحتجاج عليه " .

و في كتابه المرتقب عن النكتة – الذي مازال حبيس أدراج منزله - يقرر أن للنكتة أنواع كثيرة و وظائف كثيرة ..لذا تجده يصنف النكتة إلى أنواع كثيرة ، كلها تنطق مالا يريد الإنسان أن ينطقه جهرا: نكت خاصة بالببغاوات ، و أخرى بالحشاشين ، و ثالثة للفرفشة ، و رابعة عن الحكام العرب ، و خامسة عن الخريطة الإدراكية لشعب ما .

فهي عنده " رؤية فلسفية " معالمها كالتالي :

* " رؤية فلسفية " .. فهو يرى أن حب المصري للنكتة راجع إلى تجربته التاريخية الطويلة التي جعلته يعيش كثيرا من التناقضات و لحظات الانتصار و الانكسار ، و يشعر بالقوة و العجز .. الأمر الذي جعله قادرا على تطوير رؤية فلسفية قادرة على تقبل التناقضات و تجاوزها من خلال النكتة .

* و هي عنده : " سلاح " .. لاختراق الآخر و استيعابه .

* و هي عنده" مجاز " .. و المجاز عنده مرافق للإنسانية .

و قد كان – يرحمه الله - يتمتع بحس فكاهي عالي .. و هذه الحقيقة دعت الشاعر " عبد الرحمن يوسف " لأن يصفه بذلك في قصيدة رثائه .. قائلا :

.. بربك كيف تكون الحياة كسلسلة من نكات ..

.. تمارس فيها الكفاح و لا تستكين ؟!..

.. تواصل معركة الحق عبر السنين ..

.. و تضحك و السرطان يقطب منك الجبين ..

.. تزيد عليك الهموم و أنت تواصل دك حصون التجهم من خندق الضاحكين ..

.. أحس بأن رحيلك .. سخرية ..

.. نكتة ..

.. مقلب ..

.. صغته .. كي تروح عنا بهذا الزمان الحزين ..

.. أحس بأنك سو ف تفاجئنا ..عابرا باب قاعة تأبيننا ..

.. ثم تضحك منا .. تقول :

.. ضحكت عليكم ..

.. سأبقى .. كأني رئيس لعين ..

.. إن كان هذا مزاحا ..

.. فيكفي ..

.. و وعدا بان سنضحك .. إن عدت ..

.. فأرجع لنا الآن .. يا سيد الساخرين ..

o بعض من مشاغبات المسيري و فكاهاته :

* في حفل إفطار رمضاني لحزب " الوسط " ألقى نكتة جميلة في وسط مفكري و إعلاميي مصر ، و هي : " أن حاكم عربي دخل جهنم .. و أعطوه نمرة 25 .. فسأل عن مكان عنبر 25 .. فأجابه أحد سكان جهنم قائلا : يا فاجر .. انت عملت إيه .. دة أنا أبو لهب .. و عنبري 21 بس " .

* في إحدى الحفلات العلنية .. طلب من الشاعر " عبد الرحمن يوسف " أن ينشد قصيدة " سعاد حسني " مشددا على كلمة " حسني ".. مما يومئ بأنها قصيدة عن " سوزان مبارك " .. و قد فهم الشاعر مقصده و ألقى قصيدة بعنوان " امرأة العزيز " .

* لما سأله أحد مذيعي القنوات الفضائية عن رأيه في " الشرق الأوسط الجديد " .. فقال له تقصد " الشرق الأوسط اللذيذ " .. و لم يفهم المذيع أنه يقصد أن مشروع " الشرق الأوسط الجديد " ما هو إلا وجبة دسمة للغرب العلماني سارق ثروات الشعوب .. لضعف رشاقة المذيع الذهنية .. و ضحك الجمهور .

* كان دائما يستهزئ بالحضارة الغربية الحديثة و علاقتها بالإعلام .. فيسخر من لسان حالهم الذي يقول : " أبانا الذي في الشاشات " .. كناية عن عبادتهم للإعلام ذلك الإله الجديد .

* في سيرته الموسومة " رحلتي الفكرية .. يذكر الكثير من المواقف الفكاهية .. حتى تظن أنها طريقته في التواصل مع الناس .. و لقد صرح بذلك .. و قص أمثلة كثيرة .. منها على سبيل المثال أنه كان يستخدم الفكاهة في إلقاء الدروس الصعبة على طلبة الجامعة .. و منها : عقده لمقارنة طريفة بينه و بين أرسطو لشرح فكرة العقل التوليدي .. حيث يقول : " و كنت أحاول أن أنقل لطلبتي و طالباتي فكرة العقل التوليدي و مقدرته على الإبداع ( في مقابل العقل السلبي الفوتوغرافي المتلقي ) بطريقة درامية ؛ ففي بداية محاضرات النقد الأدبي ؛ كنت أقول لهم ( مازحاً بطبيعة الحال ) إنهم لو قرؤوا أعمال أرسطو بعناية للاحظوا مدي تأثره بأفكاري و بهذه الطريقة كنت أحاول أن أبين لهم أنني الأستاذ المصري العربي المسلم من دمنهور يمكن أن أصل إلي أفكار ربما لا تقل في عظمتها أو روعتها على أفكار أرسطو . و غني عن القول أن هذه مبالغة ؛ و لكنها مبالغة كان الهدف منها إيقاظهم ليتعرفوا على إمكانياتهم الداخلية و لا يخافوا من الإبداع " .

o النكتة المضادة ( أو النكتة الصهيونية ) :

و من ابتكارات المسيري – رحمه الله - أنه استخدم " تحليل النكتة " في إسرائيل .. كأحد أدواته التحليلية في الموسوعة .. و هذه طريقة يفهمها الغرب و الصهاينة كمعول هدم لحضارتهم .. لكونهم يعرفون كون النكتة و الفكاهة هما ترمومتر الشعوب .

و هو يقرر أن النكتة عند اليهود تعبر عن شعور بنقائص الذات و عيوب النفس.. فهي غالبا ما تعكس رؤية متشائمة بشأن المستقبل في إسرائيل .. مما يجعلها أداة تحليلية تفيد في الصراع معهم .. مثال ذلك نكتة إسرائيلية منتشرة في أوساطهم عن طبيب يتعرف على مريضة فيسأله عن مهنته .. فيقول له : كاتب .. فيسأله : و ماذا تكتب ..فيجيب : في مستقبل الوطن .. فيقول له : إذن .. أنت تكتب قصصا قصيرة يا عزيزي " . . كأنموذج للتشاؤم من المستقبل عندهم .

و في الصراع العربي الإسرائيلي يقول عادل حمودة : " أن المخابرات للدول المعادية تصنع النكت أحيانا.. مثل نكتة : الرئيس العربي الذي رسم خريطة فلسطين على ذراعه حتى لا ينسى القضية الفلسطينية .. و حين سألوه عما يفعل إن تحررت فلسطين .. قال : حأقطع ذراعي ." .. ( و هي مثال لبث اليأس في النفوس ) .

و من النكت التي تصور تعقيد اليهود الدائم للأمور ..أن جامعة عالمية بها عدة جنسيات عملت امتحانا تطلب فيه : " أكتب موضوع من تصورك عن الأفيال " .. فكتب الفرنسي بحث بعنوان " صيد الأفيال " .. و الإنجليزي بعنوان : " تربية الأفيال " .. و الكندي بعنوان : " الحب عند الأفيال ".. أما اليهودي فكتب بحثا بعنوان : " الأفيال و المشكلة اليهودية ".

و من النكت التي يبثها المقاومين في فلسطين .. أن سلطات الاحتلال قررت القبض على من يقوم مبكرا .. لأنه من النشطاء .

سادسا : النكتة و الفكاهة في الفكر الإسلامي :

· أبو حيان التوحيدي يقول في كتابه " البصائر " : " إياك أن تعاف عن سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل ، الجارية على السخف .. فإنك لو أضربت عنها جملة .. لنقص فهمك و تبلد طبعك " ..( و هذا ما يفسر لنا غلظة طبع و جفاء فطرة منطقة أوربا الشرقية .. لأنهم لا يقدرون النكتة و الفكاهة )

· و الشيخ القرضاوي في كتابه " فقه اللهو و الترويح " يذكر مجموعة من الصحابة الفكاهيين الكوميديين ( منهم سويبط بن حرملة – رضي الله عنه ) الذي كان يصنع المقالب في إخوانه من الصحابة .. و الرسول يضحك ..

· و د . صهباء بندق تتبع وتؤصل للطريقة العبقرية التي يستخدمها الصحابي الجليل " أبي هريرة " في العلم و التعلم .. و التي جعلته يروي هذا الكم من الأحاديث النبوية .. في حين أن من أقرانه من نسى كثير منها .. فتجد أن هذه الطريقة العبقرية ما هي إلا .. ( الفكاهة ) .

· و د . جابر قميحة يري أن : السخرية من ظالم .. انتصار لقيمة وطنية و قومية أو دينية .

· تيار التشدد الديني يكره النكتة .. لكونها مجاز .. و هم لا يؤمنون بالمجاز .. و المجاز عند المسيري .. دليل على رقي خصيصة " الإنسانية " في الإنسان .. لكون المجاز يعطي مساحة للاجتهاد خاصة بالزمان و المكان .

· و القرضاوي يبين : " أنه ليس من الضروري أن تكون النكت مخبرة عن واقع حقيقي ، بل قد تكون مختلقة ، كما يختلق القصاص و الروائي الأحداث " .. و ينفي عن ذلك صفة الكذب المحرم .. لأن الناس يعلمون أنها من نسج الخيال .

و أخيرا : الخاتمة

نتيجة .. و نصيحة :

1) النتيجة :

· الفكاهة فضيلة إنسانية عالية .

· الفكاهة تؤصل لثقافة اللا عنف ...و هي إحدى وسائل التغيير السلمي .. خاصة في مصر .

· يقولون أن أركان نهضة الشعوب ثلاثة ( عقل نقدي – عقل إبداعي – روح فريق العمل ) .. و هذه الثلاثة تتوفر في النكتة و الفكاهة .

· و كما يقول " دانييل كولمان " في كتابة القيم " الذكاءات المتعددة " أن الذكاء أنواع .. فالفكاهة هي أحد روافد الذكاء فهي تحتاج إلى عقل و عاطفة .

· أكثر الأعمال الفنية تأثيرا الأعمال الكوميدية .. و لو هزلية ( اللمبي مثلا ) .

· هناك ثقافة أخرى مهملة .. هي الثقافة الشعبية ( التي هي ملك المصريين وحدهم ) و التي تعبر عن مدركات الشعب الحقيقية .. غير ثقافة النخب التي تسكن الأبراج العالية .. و هذا ما فعله المسيري ( رحمه الله ) فقد كان يعتمد ثلاثة أنواع من الخطابات .. ( شعبي .. و سياسي .. و فلسفي أو نخبوي ) و هو من المفكرين القلائل الذين لم ينفصلوا عن الشارع .

2) النصيحة ( التوصيات ) :

· الاهتمام بالفكاهة كأحد أفرع علم الجمال بعد تطوره .. يجعلها أحد روافد العلو م الاجتماعية الحديثة .. خاصة بعد " ثورة مصر 25 يناير " .

· يجب الاهتمام بالفكاهة في المناهج الدراسية .. و خاصة في مجال تغيير القيم .

· على كل فصيل سياسي أو اجتماعي يسعى للتواصل الجماهيري .. أن يعتمد النكتة و الفكاهة في خطابه الجماهيري . . كوسيلة للإعلام الموجه .

· اعتماد النكتة و الفكاهة كأحد أدوات استشراف المستقبل عند العقلاء .. فعالم الأرصاد يتوقع الإعصار قبل حدوثه .. و الناس لا يصدقونه إلا عند هبوب الإعصار .. و قد لا حين مندم .

· الحذر من النكات المضادة .. لما لها من تأثير سلبي كبير .

دمنهور في 16 يونية عام 2011 م .

إنشرها على :

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites